الأحزاب بين مستلزمات المسؤولية السياسية ورهان الكفاءة في التدبير
إن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة جعل شعار هذه المرحلة هو “روح المسؤولية والعمل الجاد”، خاصة وأن توجهات خطابي العرش وذكرى 20 غشت تتطلب نوعا من التعبئة الشاملة والعمل الجماعي وقيام الجميع بأدواره كاملة.
وفي اعتقادي، فإن الأحزاب تتحمل مسؤولية كبيرة، من خلال منتخبيها وهياكلها التنظيمية الجهوية والإقليمية، للمساهمة في تحريك دينامية الإصلاح المطلوب في البلاد. وهو ما عكسه الخطاب الملكي في الفقرة الخاصة ب”مواكبة الهيآت السياسية، وتحفيزها على تجديد أساليب عملها، بما يساهم في الرفع من مستوى الأداء الحزبي ومن جودة التشريعات والسياسات العمومية”.
ففي ظل الفراغات الموجودة هنا وهناك، بسبب عدم القدرة على تنزيل الأوراش وتدبير المشاريع على أرض الواقع، وفي ظل رغبة البعض في تقزيم أدوار كل المؤسسات والفاعلين وأدائهم، و إصرار البعض على الدفع بالأحزاب إلى التراجع والغياب عن الساحة السياسية، وفي ظل التكهن بإجراء انتخابات سابقة لأوانها دون الاستناد على مؤشرات دالة أو إفادات في الموضوع، وفي ظل تنامي ظاهرة الشعبوية المرتكزة على الإشاعة وبث ثقافة التيئيس والعدمية، وفي ظل تسييد حالة من الالتباس و الغموض في واقع الممارسة السياسية، والتشكيك في الفاعلين السياسيين وفي المؤسسات بشكل يجعل الواقع السياسي في بلادنا مريرا، هناك رغم كل ذلك، فرصة حقيقية لإحياء الديناميات المختلفة وتجديد العلاقات بين مكونات المشهد على أسس ترقى إلى مستوى اللحظة التاريخية.
وإذا كان منطق المسؤولية الوطنية يفرض ألا نترك الفرصة لمن يريد إدخال البلاد في أزمة سياسية أو دستورية، كما لا يمكن أن نسمح لأي كان بالزج بالبلاد والعباد في حالة من اللاستقرار واللاأمن، فإن نفس المنطق يتطلب، اليوم قبل الغد، استفاقة النخبة السياسية من دوختها، والعمل على استرجاع الثقة في أحزابها وقيادييها، واستعادة الروح والقوة والنفس في هياكلها وأدائها الميداني في قلب عموم الجماهير الشعبية، على أساس تحرير الطاقات وتوسيع دائرة المشاركة وتعميق الممارسة الديمقراطية داخل التنظيمات والأحزاب السياسية بما يكفل تجديد النخب.
إن دعوة جلالة الملك إلى “الرفع من الدعم العمومي للأحزاب، مع تخصيص جزء منه لفائدة الكفاءات التي توظفها، في مجالات التفكير والتحليل والابتكار” يتطلب اليوم من أغلب الأحزاب نوعا من الاعتراف بعدم مواكبتها للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجارية في مفاصل الدولة والمجتمع، وتقصيرها في الانفتاح على الطاقات والكفاءات المتجددة والمجددة، وتماديها في تقديم الحسابات الداخلية الضيقة على حساب المصلحة العامة، وتقاعسها عن الحركة والنهوض بواجباتها تجاه المواطنين عبر تحريك تنظيماتها وهياكلها وتطوير أساليب تواصلها وتوسيع قاعدة إشعاعها.
والخطاب الملكي كان ملمحا بشكل قوي إلى أن الأحزاب ما عليها إلا أن تدرك بأن أمامها فرصة تاريخية لجني مكاسب مهمة لفائدة المواطنات والمواطنين، وهو ما يفرض عليها إيقاعا مغايرا للاشتغال كفرق عمل تشكل قوة فاعلة ووازنة، لتثبت أنها كانت في وضعية تفكير وتأمل وإعادة نظر في طرق وأساليب عملها واشتغالها.
فتأكيد جلالة الملك على أن “الرهانات والتحديات التي تواجه بلادنا، متعددة ومتداخلة، ولا تقبل الانتظارية والحسابات الضيقة”، ومراهنة الشعب المغربي، بكل فئاته ومكوناته، على قواه الحية من خلال أحزابه، وتعليق الأمل على قياداتها و منتخبيها كقوة محركة قادرة على التجاوب مع حاجاته وانتظاراته وطموحاته، مشروط بإيجاد الأحزاب للصيغ الملائمة لحل المشاكل والقضايا العالقة داخل الجهات والأقاليم والجماعات.
ولن يتأتى ذلك، بدون أن تقدم الأحزاب على تشبيب ذاتها، وفسح المجال للطاقات والكفاءات للاندماج داخل هياكلها، وتأهيل مناضليها ومناضلاتها لتحمل المسؤوليات داخل مؤسسات الدولة المنتخبة والمعينة، والقطع مع منطق الربح والخسارة في الانتخابات وحدها، ومع الرهان على رجال المال والأعمال دون غيرهم من الأطر الحزبية والسياسية المتمرسة.
وهو ما يدعو الأحزاب اليوم إلى استثمار قوتها السياسية، وخلق ديناميات سياسية وتنظيمية جديدة، وضخ نفس جديد في الحياة السياسية، عبر عقد سلسلة من اللقاءات العملية في الجهات والأقاليم كلها، قصد التواصل مع مناضليها وسكانها، بهدف البحث عن سبل تجاوز مطبات الاحتقان الاجتماعي والسياسي داخلها.
وهذا في اعتقادي هو أساس التمييز بين الانتهازية والصدق في العمل، المشار إليهما في الخطاب الملكي الأخير.