نحو طريق ثالثة
ذ. جمال مكماني
لقد أصبحت جميع الأزمات التي يمر منها العالم، تسائل استدامة السياسات النيوليبيرالية للنظام الرأسمالي، وتحرك هواجس الشك بخصوص استنفاد كل طاقاته وقدراته على تقديم الحلول. وإبان هذه الأزمات تنتعش آمال المقاربات التي تقدم نفسها كبديل للنظام الرأسمالي، وبحكم أن الصراع مع الإشتراكية قد إنتهى بهيمنة الرأسمالية منذ انهيار القطبية الثنائية الحادة، فإنها مستبعدة عن الخيارات التي يمكن أن يفكر فيها، خاصة بعدما أن استعانت بها الرأسمالية في العديد من القضايا الجوهرية لإحكام قبضتها على الإقتصاد والسياسة. إن الخيار الأقرب إلى منطق التحولات العميقة التي لحقت بنية الإقتصاد والمجتمع هو الطريق الثالثة التي لها من القدرة ما يجعلها قادرة على رفع التحديات المطروحة اليوم على مستوى العالم، سواء على المستوى الإقتصادي أو الإجتماعي أو البيئي، ولعل من بين المفاهيم التي نحتاج ربما اليوم إلى الإستعانة بها من أجل رسم ملامح مجتمع جديد، نجد مفهوم “ديمقراطية امتلاك المِلْكِية”.
استعمل هذا المفهوم لأول مرة داخل النظرية السياسية- حسب الباحث مراد دياني- على يد الإقتصادي البريطاني جيمس ميد (الحاصل على جائزة نوبل للإقتصاد سنة 1977) ولكن سوف يتم تطويره أكثر مع الأمريكي جون راولز.
خلافا للتصورين الرأسمالي والإشتراكي للمساواة التي يتم ربطها بتجميع فائض الموارد عن طريق الضرائب ثم إعادة توزيعها، نجد تصور جيمس ميد للمساواة مرتبط أشد الإرتباط بتَمَلُك المِلْكِية، وهنا يدعو إلى إعادة توزيع الثروة بدل من مجرد إعادة توزيع الدخل. كما أن جون راولز من خلال كتابه “نظرية العدالة” الصادر سنة 1971، اعتبر أن مباديء العدالة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال نظام ديمقراطية امْتِلاك المِلْكِية وليس من داخل دولة الرفاه الرأسمالية، لأن هذه الأخيرة (دولة الرفاه الرأسمالية) تتيح إمكانية سيطرة قلة قليلة من الناس على الإقتصاد وعلى جزء كبير من الحياة السياسية، وبالتالي فهي لا تتعامل مع جميع أفراد المجتمع بشكل متساوٍ بطريقة تضع قطيعة مع أشكال اللامساواة الإقتصادية والإجتماعية. ومن أجل إعادة ضبط هذا الأمر، والتأسيس لمساواة حقيقية، سوف تعمل مؤسسات ديمقراطية المِلْكِية على تشتيت ملْكِية الثروة ورأس المال، وبدل أن تكون مركزَّة في أيدي قلة قليلة شأنها شأن الحياة السياسية، سوف تتم إعادة توزيعها على فئات واسعة.
إن الخيار الإقتصادي المبني على إعادة توزيع الدخل هو بمثابة الخديعة التي يقوم بها المالكين لرأس المال من أجل التغطية على فلسفة اللامساواة التي تنبني عليها ممارساتهم، لأن هذا الخيار يساهم في إعادة إنتاج نفس منطق التداول أي تداول الثروة بين الأغنياء فقط وكذلك الأمر بالنسبة لتداول السلطة السياسية، وهذه إحدى المعضلات المعاصرة التي تكمن في هيمنة الإقتصادي على السياسي، وما يترتب عن ذلك من أزمات تُبِيدُ ما تبقى من المثُل المنعشة للسياسة. وكذلك فبدل، أن يتم تصحيح فكرة وجود ضحايا يعانون من الظلم الإجتماعي والإقتصادي، يتم القيام بمجهود جبار لكي نقبل بهذا الأمر ونتعايش معه من زاوية كونهم ضحايا، كما لو أن ذلك ناتج بشكل طبيعي لا تتدخل فيه المنظومة الإقتصادية المفتقدة للعدالة الإجرائية. ينبغي على المجتمع أن يتم النظر إليه حسب منظري الطريق الثالثة باعتباره نظاما منصفا للتعاون بين المواطنين باعتبارهم أحرارا ومتساوين، وهذا يتطلب أن نمنح للمواطنين وسائل الوصول إلى إنتاجية كافية لكي يتحقق مبدأ الإستقلالية والتعاون فيما بينهم. وتتجلى هذه الوسائل في الرأسمال البشري ورأس المال الحقيقي والمعرفة وفهم المؤسسات وتعليمهم وتدريبهم، أي أن المساواة تنبني على فلسفة قبلية وليست بعدية، ينبغي أن تكون سابقة على الإنتاج وليست في مرحلة تالية(إن صح التعبير)، أن نجعل من الناس سواسية معناه أن نمكنهم جميعا من وسائل الإنتاج الضرورية أي المساواة في التمكن من شروط عملية الإنتاج، وبدل أن نتعامل معهم من زاوية الرأفة والتضامن السلبي علينا أن نجعل منهم ذواتا منتجة لكي تحقق الإستقلالية المطلوبة ولكي تقرر بشكل موضوعي حينما يتطلب الأمر ذلك، وهذه هي الطريقة التي يمكن أن تحقق ما يسميه جون راولز ب ” العدالة الإجرائية” كمدخل للمساواة كتضامن بين الجيل السابق والجيل اللاحق.
فراولز يقصد بديمقراطية إمتلاك الملكية – حسب الباحث مراد دياني- “ليست مجرّد شدّ أزر أولئك الذين تلحق بهم خسارة جراء حادث أو مصيبة (على الرغم من أنه يجب القيام بذلك)، وإنما بالأحرى وضع جميع المواطنين في وضعية تمكّنهم من إدارة شؤونهم على أسس درجة ملائمة من المساواة الإجتماعية والإقتصادية”.
من خلال كتاب صدر سنة 2012 ببريطانيا بعنوان ” ديمقراطية امتلاك الملكية: راولز وما بعده لمارتن أونيل M.O’Neill وثاد ويليامسون T.Williamson، يرى الكاتبين أن ديمقراطية امتلاك الملكية هي السهر على التشتيت الواسع لملكية وسائل الإنتاج مع تحكم الأفراد في رأس المال الإنتاجي، مما قد يمنح فرصة لهم من أجل التحكم في أحوال العمل الخاصة بهم. ويشمل هذا النموذج أيضا نظاما جبائيا أكثر عدالة بخلفية فلسفية تسعى إلى الحد من اللامساواة الواسعة في الثروة، فبدل إثقال كاهل الطبقة المتوسطة لوحدها بالضرائب وجعلها الفئة الأكثر انضباطا من حيث تأدية الواجب الضريبي، نجد أنه يوصي بفرض ضرائب مهمة على العقار والميراث والهبات. كما يدعو إلى منع الثروة من التأثير على السياسة، بهذه الطريقة المبنية على تشتيت ملكية الأصول الإنتاجية سوف يفسح المجال أمام فئات واسعة من الناس من أجل الوصول إلى مناصب الحكم والسلطة، وهو ما لم يتحقق أبدا في ظل نظام تلقّي مدفوعات الرعاية الإجتماعية وفي ظل إحكام أصحاب الثروة القبضة على المجال السياسي.
حسب الطريق الثالثة تعتبر الديمقراطية الإقتصادية مدخلا أساسيا للديمقراطية السياسية، ولتحقيق الديمقراطية الإقتصادية على الحكومات أن تشتغل من أجل توفير المناخ المناسب لجعل رأس المال والثروة متداولة بين جميع الفئات الإجتماعية وليس حكرا على قلة قليلة وأن يتم ذلك عبر الأجيال. وإذا كانت من بين ما يحدد طبيعة النظام الديمقراطي هو التداول السلمي على السلطة فينبغي كذلك- حسب الباحث مراد دياني- أن يكون مرادفا له التداول على المناصب الإقتصادية والإجتماعية.
هذه بعض الخصائص المميزة لوجهة نظر طموحة من داخل الطريق الثالثة، من بين خصائص عديدة سوف نتطرق إليها في مقالات أخرى بخصوص هذا الموضوع. يتبين من خلالها أننا أمام خيار واعد للسياسات الإقتصادية وللأشكال المجتمعية البديلة خارج ثنائية اليمين (الرأسمالية) واليسار (الأشتراكية)، لكن الهيمنة الرأسمالية على الإقتصاد والسياسة والمجتمع، تجعل من هذه الخيارات غير مألوفة وغير مفهومة نتيجة التعتيم المضروب عليها وكذا مؤسساتها الدولية المتحكمة في رسم السياسات الإقتصادية للدول والتي تخدم أجندة ومصالح الجهات المانحة. إننا في حاجة اليوم من داخل بلادنا إلى القيام بمجهودات جبارة من أجل التعريف بهذه الخيارات للاستفادة منها على مستوى رسم السياسات الإقتصادية خاصة في ظل اشتداد أزمة النيوليبيرالية.