الزمن الكوفيدي والعولمة الجديدة

0 1٬117

إمزل عبدالرحمان

أدرك العالم الوضع الكارثي بدخوله النفق الشبه المظلم لأزمة كورونا، ولازال يبحث عن فتيلة ينير بها طريقه من أجل تخطي هذا الوباء الذي نتج عنه زعزعة التوازن السياسي، الاقتصادي والاجتماعي في كوكب الأرض.
مع نهاية الحرب الباردة تكاثرت المفاهيم والنقاشات العامة والأكاديمية من أجل إيجاد ووضع صيغة معبرة لجوهر العمليات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية على المستوى العالمي.

آنذاك أصبحت تطفو رؤية هذه العوامل بمجهر أو منظور جديد أطلق عليه مصطلح العولمة “La globalisation “ مصطلحا استعمل من أجل التأثيرات الإيديولوجية و القرارات السياسية والبيئية والأمن الدولي التي استخدمها مروجوا الليبرالية الاقتصادية لتبرير الحاجة والتحكم في السوق العالمية، وكذلك خلق قوة تحريرية و نقل الإمبريالية الاقتصادية والثقافية الغربية عبر العالم، و الزيادة في الحركية الرأسمالية التي تؤدي الى المنافسة بين الأنظمة لجلب رؤوس الأموال أو بالأحرى السباق على السياسات المالية و الاجتماعية.

إن مسار هذا المصطلح “العولمة” مر من مراحل عدة لينتقل من عولمة قديمة إلى عولمة معاصرة:

* مرحلة ما قبل الميلاد التي رافقت التطور الاجتماعي للبشرية منذ أن بدأت تشكيلات منظمات التعايش كالفينيقيين أو القرطاجيين…. وغيرهم من اللذين ركزوا في علاقاتهم على التبادل التجاري وخلقهم لقواعد لوجستية بحرية على سواحل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في إفريقيا وأوروبا من أجل تسهيل هذه العمليات التجارية والبحث عن المفقود في أراضيهم من حديد وخشب…
فبالرغم من أن السلع المتبادلة كانت بكميات قليلة بين الشعوب، فإن هذه الحركية كان لها تاثيرا ثقافيا ومنبعا للمعرفة وللتقنيات المستعملة من أجل البحث عن المواد اللازمة، مما أدى إلى تطور اجتماعي واقتصادي آنذاك.

*  مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، والتي كانت الأنظمة الاقتصادية تركز فيها على الأسواق الداخلية وكانت تبحث عن سد حاجياتها فقط في سوقها الوطني لكن على حساب مستعمرات ودول ضعيفة.

* مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هنا جردت العولمة نفسها من الحقبتين الأولى والثانية وأصبح لها مفهوم آخر ومعاصر. ليس البحث عن المفقود أو سد الحاجة في الأسواق الداخلية فقط، بل غزو واحتكار الأسواق العالمية الذي جاء نتيجة:
– الطفرة الاقتصادية التي عاشتها دول الغرب خاصة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
-التقدم التكنولوجي الذي أدى إلى خفض تكاليف الإنتاج وكثرة العرض.
-ظهور طبقة اجتماعية وسطى اكتسبت القوة الاقتصادية اللازمة لاستيعاب العرض الضخم.

إن التطور السريع في الاتصالات والنقل مع بداية التسعينيات أدى إلى التغيير في مواقف الشعوب والفلسفات السياسية والاقتصادية، وذلك بفتح أسواق جديدة وظهور حرية حركة الرأسمال التي أدت الى انفجار مستوى الاستهلاك العالمي الذي طال حتى دول العالم الثالث والدول السائرة في طريق النمو.

إن هيمنة الشركات متعددة الجنسيات على الأسواق العالمية وكذلك استثمارها في الدول السائرة في طريق النمو أو دول العالم الثالث نظرا لتوفير اليد العاملة الرخيصة، والوجود المحلي للمواد الخام بأراضيها والضرائب المخفضة، أدى إلى عدم التوازن داخل الأنظمة الإجتماعية والتوزيع غير العادل للثروة العالمية. حيث نجد أن أمريكا الشمالية وأوروبا والصين والهند يمتلكون نسبا مهمة من الثروة العالمية بينما القارة الافريقية وأمريكا اللاتينية تحضيان بنسب ضئيلة.

لكن في غياب الفهم لدى السياسي الذي ليس له رؤية للمستقبل أو فهمه الخاطئ للعولمة، جعل أغلب الشركات متعددة الجنسيات أو الرأسماليين أن يبرروا استراتيجية أعمالها، وأن يواصلوا لعبة العولمة ظنا منهم أنها المُنَجّي للمستهلك. لكن في الواقع غير المرئي لا يفكرون إلا في الاغتناء وتحويل رؤوس الأموال لصالحهم وتأثيرهم على المنحى المالي والاقتصاد العالمي ليبقى المستهلك بشكل أو بآخر ضحية شيء إسمه العولمة.

وهنا تُطرح بعض التساؤلات:

*هل هذا النموذج السياسي، الاقتصادي والاجتماعي الحالي هو النموذج الأفضل والوحيد الممكن؟
*هل سيتفكك هذا النظام “العولمة ” وماهي أبعاد هذا التفكك.
*هل ستظهر قوة او قوى قادرة على خلق واعتماد اقتصاد شمولي بديل للاقتصاد العالمي الحالي؟

أسئلة طفت مع ظهور فيروس كورونا، حيث أصبحت العولمة تعرف بعض الارتدادات والتي من المحتمل أن تحول العولمة إلى اللاعولمة أو عولمة ذات طابع جديد “العولمة الكوفيدية”.

ما يعيشه العالم الآن برهن أن النموذج السياسي والاقتصادي الحالي ليس هو الأفضل، ذلك بظهور مجموعة من المؤشرات السلبية تَبين من خلالها مكامن الخلل وهشاشة الأنظمة الصحية العالمية وفشل الرأسمالية وسوء التدبير اللبيرالي في مواجهة أزمة كورونا، وعدم التمكن من احتواء الفيروس وعجزها على توفير الإلزاميات الصحية، وانكماشها في عزلتها واستقلاليتها والبحث فقط عن تحقيق اكتفائها الذاتي عوض أن تواجه الأزمة بفكر عولمي مشترك الذي يعتبر من أساسيات العلاقات الدولية.

إن تأثير فيروس كورونا لن يقف عند آثاره الصحية بل سيتجاوز ذلك إلى خلق أزمات اقتصادية، والتي بدأت تطفو على الاسواق العالمية تجلت في: انهيار البورصات العالمية وتقليص حجم المبادلات التجارية بسبب توقيف السلسلة التصنيعية وانخفاض أسعار النفط وتوقيف أساطيل النقل المدني وانهيار القطاع السياحي وإغلاق الحدود وارتفاع البطالة، إلخ.

كلها مؤشرات تسبح عكس تيار العولمة وتنذر بعواقب وخيمة على النظام الدولي. مما يعطينا تقييما على أن الغرب يعاني من فراغ قيادي عالمي، وأن معظم الكوارث عبر التاريخ كانت ولازالت سببا في تراجع   وانهيار أنظمة وتشكيل أخرى جديدة.

فمراحل كورونا من المحتمل أن تجعل مركز الثقل الاقتصادي يتحول، وانتقال محور القوة من نظام إلى آخر، أو بالأحرى تشكيل تكثلات جديدة من الممكن أن تغير موازين النظام العالمي، والعمل على مشروع عولمة جديد قادر على إدارة الأزمة وذو مصداقية في التعاون المشترك والبحث عن تحالفات في جميع القارات من أجل الظفر والهيمنة على الإقتصاد العالمي، بعيدا عن الفكر الاستعماري غير المباشر وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتقوية العلاقات الدبلوماسية والتكنولوجية وخلق فرص العمل ما بعد كورونا.

أو أن المحور الغربي المتفكك سيعيد النظر في تنظيماته السياسية والاقتصادية الخارجية من أجل الحفاظ على السوق العالمي بعد هذا الوباء. وخلق نظام تنوعي جديد للإقتصاد الداخلى يضم كل القطاعات الحيوية، الصناعية، الفلاحية، قطاع الخدمات والذكاء الإصطناعي لتفادي الأزمات الداخلية، خاصة أنه بعد كورونا سيُثقَل كاهله بمديونيات يجب أن يجد لها حلولا تعيد له القوة للحفاظ على مكانته في نظام  متوازن بين قوتين غربية وأخرى شرقية يُمَكِّنهما من السيطرة والهيمنة على النظام العالمي الجديد

فأي عالم وعولمة نريد؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.