وهبي يكتب: السيدة كورونا والأحزاب السياسية

1 1٬608

(الشعوب ليست برجالها، بل بالقيمة التي تعطيها لرجالها) نيتشه

يعلمنا التاريخ أن تجاوز الأزمات يعكس دائما نوعية النخبة التي تعيشها، وأن التحديات الكبرى التي تطرحها، تسمح بظهور أسلوب جديد من الفكر والسلوك، في مستوى أفراد هذه النخبة، يمكنها من إدراك أسبابها، وتلمس السبل لبناء الحلول الممكنة عبر التضحيات المطلوبة.

فمنذ البوادر الأولى لدخول جائحة “كورونا” المستجد للمغرب، كانت اليقظة الوطنية في المستوى العالي، واتخذت قرارات استباقية ووقائية وعلاجية في غاية من الفعالية، ترجمت الإحساس النبيل الذي يسكن باستمرار قلب وعقل الملك والشعب اتجاه الوطن.

لا أتذكر أين قرأت للفيلسوف الألماني نيتشه قولته: (إن الشعوب ليست برجالها، بل بالقيمة التي تعطيها لرجالها).

والشعب المغربي، بانخراطه الشامل والحماسي لإنجاح كل القرارات الرامية إلى محاربة هذه الجائحة، كل في مجاله، عبر عن عظيم احترامه وجدية التزامه بالحجر الصحي، وبكل التعليمات التي أعلنتها السلطات الصحية والعمومية، دون أن نغفل دور كل من يقف في الخط الأمامي لمواجهة هذا الوباء بتضحية ونكران للذات من أجل الوطن ولأجل أبناء الشعب.

وإذا كان هذا هو الشأن عند عموم المواطنات والمواطنين، فإن المطلوب من النخب السياسية والحزبية هو تكريس احترام من نوع آخر.

احترام يترجم في استكناه روح الديمقراطية ومسؤولية المؤسسات الحزبية في اهتمامها الواقعي والدائم بقضايانا الوطنية لدفعه للتقدم والازدهار.

وسيلاحظ كل ذلك من طبيعة القرارات التي لولا جرأتنا الوطنية السياسية لكان الوضع أفظع مما نحن فيه.

فكل الدول وقفت أمام خيارين اثنين وهي تواجه وباء كورونا المستجد: إما الأولوية للاعتبارات الاقتصادية، أو الأولوية لاعتبارات الصحة العمومية.

لم يتردد وطننا ملكا ومسؤولين، في اختيار أولوية الصحة العمومية وحماية المجتمع وتعزيز سلامته.

فعلى خلاف دول، مثل انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل، التي فضلت استمرار عجلة الاقتصاد، والخضوع للوبي الاقتصادي المالي رغم بداية انتشار الوباء داخل مجتمعاتها، لتكتشف أخيرا أن قرارها كان خاطئا وهي دول عظمى وثقت في إمكانياتها لدرجة الغرور؛ اختار المغرب بتواضع وسائله وصحة مواطنيه رغم التكلفة الاقتصادية العالية، وانتصر لسلامة حياتهم في القرى والمدن.

الأمر الذي يؤشر بقوة على خصوصية السياسة الوطنية التي تجسدها إرادة الملك والشعب

وهذا الشعب الذي تؤطره الأحزاب، مدخلها الأساسي الوطن، وغايتها القصوى الحفاظ على سلامة الحياة الاجتماعية لعموم المغاربة.

إن إعلاء أهمية الحياة الاجتماعية الصحية على كل الاعتبارات التي يمليها الاقتصاد والعولمة، هو حكمة مغربية تعبر عن أصالة عريقة تجعل من حياة المغربي في أبعد قرية مغربية أغلى من الأرباح المالية التي يمكن أن تجنيها الدولة من استثمارات وطنية كانت أو أجنبية.

كما يعني أن الاقتصاد ورؤوس الأموال المستثمرة فيه، هي أولا وأخيرا في خدمة حياة المغاربة من أجل غد أفضل وبناء مجتمع حداثي ديمقراطي.

إن مثل هذه القرارات الحكيمة في هذه الظرفية الصعبة، تعد في اعتقادنا حدثا تاريخيا وجب الاستفادة منها من قبل كل النخب السياسية الحزبية، إذا ما ربطنا حكمة قراراتنا الوطنية ضد وباء كورونا بتوجهاتنا الديمقراطية لمعالجة قضايا المجتمع المغربي، ودعوات الأحزاب المتكررة للإصلاح، واستحضرنا الأهمية الديمقراطية لدعوة جلالته للتفكير في نموذج تنموي جديد يساهم فيه المغاربة جميعا.

وإذا استحضرنا كل هذا السياق الديمقراطي فإننا سنكون أمام ضرورة عنوانها الأساسي تغيير البراديغم الحزبي السائد اليوم داخل الحياة السياسية المغربية.

إذ نحتاج إلى براديغم جديد يجعل الحزب قوة مجتمعية بناءة واقتراحية، ويجعل الوطن المرجعية الوحيدة لكل تدافع وصراع داخل وبين المؤسسات، وكذلك طبيعة التحالفات من أجل برامج وأهداف تنموية، وليس فقط لتأكيد هذه الزعامة أو تلك.

فالسياسة الحزبية المغربية اليوم مطبوعة بانتظارية تعتمد على مسايرة مقتضيات العولمة للسياسات العمومية، كما أنها مطبوعة بأرستقراطية حزبية هدفها الوحيد هو إعادة إنتاج شروط سيطرتها على الحزب، دون مراعاة جدية للديناميات السياسية والثقافية التي تعتمل داخل المجتمع المغربي.

وهذا البراديغم المبني على غياب الفعل السياسي من جهة، وعلى التكلس التنظيمي من جهة أخرى، جعل سياسة الأحزاب بالمغرب تختزل في حروب صغرى تقودها مستويات فكرية قزمية لا تفهم أن الديمقراطية هي قضية حوار واعتراف بالآخر ونبذ الاستعلاء وتوجيه الاتهامات الجوفاء.

فلا أحد في السياسة يمتلك عذرية أخلاقية أو زعامات حصرية، أو الانزلاق ببناء تحالفات فوقية مسعاها هو التنافس على المواقع داخل المؤسسات، وتحويل هذه الأخيرة إلى عمل إداري روتيني يفتقر لحرارة الواقع والإعمال الفعلي للدستور أو تهميش للقوى السياسية الوطنية الفاعلة لفائدة بعض البيروقراطيين الآتين من عالم المال والأعمال حاملين معهم أرقاما وتصاميم نظرية سرعان ما تهوى أمام عنف الواقع وإلمام السياسي به.

وذلك كله ما يشكل طبيعة الديمقراطية التي تكره التقنية المجردة لفائدة النقاش العمومي الذي يخلق الحوار المؤسس للاستقرار السياسي.

وهذا ما يجعل الديمقراطية مجالا للسياسة، والتقنية مجالا للبيراقطية التي سرعان ما تتحول الى نوع من “الاوليغارشية” الرقمية.

فالبيروقراطي لا يمكنه إلا أن يكون مساعدا للسياسي لا أن يحتل مكانه لأن الأرقام والتصاميم وإن كانت معادلات رياضية فإنها تختلف دلالتها الزمنية وطبيعة أولوياتها بين البروقراطي والسياسي.

أما ما يهم وضعنا السياسي اليوم المتجسد في قيادة ملكية وطنية تواقة للمزيد من الديمقراطية، وفي ظرفية اقتصادية واجتماعية تدعو إلى بدائل جديدة اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا، وممارسات حزبية متقدمة وجريئة تعبر عن الثقة في الذات والقدرة على الإنصات للحلفاء والخصوم على السواء، فالسياسي الماهر ليس هو من يتكلم، بل هو من ينصت، لأن الواقع يتحدث بهمس.

والعظماء هم فقط من لهم القدرة على السماع لحثيث وأنات الشعوب.

وأمام إقبال العالم من حولنا على أهبة تحولات قوية وعميقة، فإن النخب الحزبية المغربية أمام ضرورة انبعاث جديد، لبث نفس جديد في هياكلها التنظيمية وإعطاء السياسة توافقات حديثة وفق تصور يخدم الوطن، وتحليل خلاق للبدائل الاجتماعية.

ولعل هذا الحكم يهمنا ذاتيا وليس من موقع إعطاء الدروس لأي كان، فالتاريخ دائما هو الفيصل، والأحزاب لا يمكن أن تكون قوية وفاعلة إلا إذا حافظت على استقلاليتها.

إن الحرية، كما يقول هيجل، هي الضرورة. وفي المغرب، الضرورة اليوم هي جعل اختلافاتنا قبل اتفاقاتنا ثراء للوطن، والإيمان بأن الزعيم وحزبه لا تتحقق قيمتهما إلا عند خدمة قضايا التنمية التي يأملها المغرب ملكا وشعبا.

إنها ضرورة التخلي عن أنانية المواقع والهرولة وراء المناصب والطمع في أرباح ذاتية وعابرة، وتكون في أحيان أخرى ظالمة للشعب.

أصبح من الضروري إرجاع السياسة إلى أصلها النبيل الكامن في مواجهة مشاكل المجتمع وإرهاف الإحساس بالواقع، وعدم الاكتفاء بقراءة تقارير دولية حول اختلالات هنا أو هناك، نحن المغاربة أكثر علما بها وبتداعياتها على الحياة اليومية للمواطنات والمواطنين.

فأنا مقتنع أنه لا يفهم المغرب إلا المغاربة، ولا يمكن أن ننجح في حل مشاكلنا إلا إذا كانت الحلول وطنية نعبر عنها بكل جرأة ونزاهة ودون حسابات سياسوية ضيقة لكون القيادات الحزبية هي النموذج وإذا سكتت فمن تنتظره أن يتكلم؟!

لذلك فلن ننجح إلا إذا كنا مواطنين مغاربة داخل أحزاب مغربية تشتغل في ظل ديمقراطية مغربية وبوسائل مغربية وجرأة وطنية.

إن هذا الفيروس أو السيدة كورونا لن تتم إبادتها إلا بتلك الأيادي المغربية التي لا نستطيع أن نوفيها حقها ولتقبل منا تشكراتنا.


• عبد اللطيف وهبي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تعليق 1
  1. مناضل يقول

    – هل في نظركم اسي وهبي بأن المغرب قادر ان يكون جزء من النظام العالمي الجديد الذي يؤسس حاليا لزمن مابعد كورونا ؟
    – هل الأحزاب تمنح الفرصة لمنتسبيها لابتكار افكار ريادية المستقبل ؟
    – هل ضروري في كل أزمة من تدخل رئيس الدولة امام غياب رئيس الحكومة ؟