العلمانية في المغرب.. فاظمة تسن ربي، ربي يسن فاظمة

0 20٬126

رشيد بوهدوز
رئيس اللجنة الأمازيغية بالبام

في المغرب، كان التدين دائمًا تجربة شخصية عميقة تُجسد العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، علاقة تخلو من التعقيدات الرسمية أو الوصاية المؤسسية. العبارة الشعبية المتداولة “فاظمة تسن ربي، ربي يسن فاظمة” تختصر ببراعة جوهر هذا التدين، الذي يرتكز على البساطة والروحانية بدل الانغلاق أو التشدد. “فاظمة”، المرأة المغربية البسيطة، تعبر في هذا السياق عن كل فرد يعيش إيمانه بطريقته، متصالحًا مع ذاته ومع بيئته، دون الحاجة إلى تدخل من أي سلطة، سواء كانت سياسية أو دينية، فرغم بساطتها فهي تحمل في طياتها فلسفة مجتمعية عميقة تُظهر كيف عاش المغاربة تدينهم كجزء من حياتهم اليومية، دون تعقيد أو هيمنة.
هذا التدين الشعبي، الذي يمتاز بالعفوية والتسامح، لم يكن يومًا حاجزًا أمام التعددية أو التعايش. بل على العكس، كان عامل قوة للمجتمع المغربي، الذي نجح عبر تاريخه الطويل في احتضان مختلف الأديان والثقافات، وجعل من التنوع عنصرًا أصيلًا في هويته الوطنية. كانت هذه العلاقة بين التدين الفردي والمجتمع المنفتح سببًا رئيسيًا في بقاء المغرب نموذجًا فريدًا من التعايش والتسامح في محيطه الإقليمي.
ورغم ذلك، يبدو أن النقاش حول العلمانية في المغرب اليوم يأخذ أحيانًا طابعًا مستوردًا، وكأنه قادم من سياقات اجتماعية أو سياسية بعيدة عن واقعنا. لكن العودة إلى التجربة المغربية تُظهر أن العلمانية ليست فكرة دخيلة، بل هي امتداد طبيعي لمسار تاريخي وثقافي طويل، يعكس قدرة المغاربة على التكيف مع التحديات دون المساس بجوهر هويتهم. اليوم، ومع تصاعد التحديات الاجتماعية والسياسية، من الضروري أن نُعيد التفكير في العلمانية كإطار حضاري يحافظ على التوازن بين التدين الفردي وحقوق المجتمع، ويضمن استقرار البلاد وتنميتها في المستقبل.


إمارة المؤمنين: المغرب منارة التعايش والتسامح

لطالما كان المغرب نموذجًا للتعددية الثقافية والدينية، وهي سمة أفرزتها قرون من التعايش بين طوائف مختلفة تحت مظلة دولة تمكنت من استيعاب هذا التنوع. مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للنظام المغربي، تقدم نموذجًا فريدًا في العالم الإسلامي. هذه الإمارة ليست مجرد مؤسسة دينية تُعبر عن مرجعية إسلامية تقليدية، بل هي إطار جامع يُعنى بحماية جميع المؤمنين، بغض النظر عن دياناتهم أو عقائدهم. مفهوم “المؤمنين” في السياق المغربي يتجاوز كونه حصرًا على المسلمين، ليشمل اليهود والمسيحيين وغيرهم، ممن يجتمعون على قيم مشتركة أساسها العدالة والروحانية.

إمارة المؤمنين في المغرب ليست سلطة دينية جامدة، بل هي مؤسسة تعمل على الحفاظ على التوازن بين الدين والدولة. على مر التاريخ، تمكنت هذه الإمارة من أن تكون مظلة للجميع، وضمانة للتعايش بين مكونات المجتمع المختلفة. خلال فترات الاضطراب التي شهدتها المنطقة، كانت هذه المؤسسة عامل استقرار ومصدرًا لحماية الأقليات، كما أنها نجحت في ضمان أن يظل الدين بعيدًا عن الصراعات السياسية المباشرة، ما سمح للمغرب بالحفاظ على تماسكه الداخلي.

تجربة التعايش في المغرب ليست وليدة اللحظة، بل تضرب بجذورها في تاريخ طويل من الانفتاح والتكامل بين المسلمين واليهود والمسيحيين. في المدن المغربية القديمة، مثل فاس ومراكش والصويرة، كما بالبوادي، كانت الحياة اليومية تُدار في أجواء من التعاون. لم تكن الأسواق، ولا العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ولا حتى الأعياد والمناسبات، تميز بين مسلم ويهودي أو مسيحي. كان الناس يتشاركون الأعياد والمناسبات الاجتماعية، وكانت الثقة بينهم عميقة إلى درجة أن المسلم كان يترك أطفاله في رعاية جاره اليهودي، والعكس صحيح.

هذه الروح المتسامحة كانت انعكاسًا لفلسفة أعمق، تضع الاختلاف الديني في إطار الإثراء بدلًا من النزاع. المغرب، بهذا المعنى، لم يكن بلدًا “يتسامح” مع الآخر فقط، بل كان يعيش معه، متشاركًا معه في الثقافة والاقتصاد وحتى التقاليد اليومية. مفهوم “تامغرابيت”، الذي يعبر عن الهوية المغربية المتفردة، يؤكد أن التعايش لم يكن مجرد حالة عرضية، بل كان جزءًا أصيلًا من كيان المجتمع.

“أزرف”: القانون العرفي كأساس للتنظيم المجتمعي

على مستوى آخر، قبل ظهور المحاكم الشرعية بفرض من سلطات الحماية الفرنسية (بعدما كانت حكرا على بعض الحواضر الكبرى في إطار محدود)، كان المغاربة يديرون شؤونهم اليومية عبر قوانين عرفية تُعرف بـ”أزرف”، والتي تعكس فهمًا مغربيًا خاصًا للعدالة والتنظيم الاجتماعي. “أزرف” لم تكن تعتمد على نصوص دينية جامدة، بل استُمدت من الهوية الأمازيغية، وكانت تضع في اعتبارها احتياجات المجتمع وتطوره.

ما يميز “أزرف” عن غيرها من التجارب القانونية في المنطقة هو طبيعتها المدنية. لم تكن القوانين العرفية ترى الدين مصدرًا حصريًا للتشريع، بل اعتمدت على العقلانية والمرونة، بما يخدم المصلحة العامة. كانت القرارات تُتخذ من خلال مجالس جماعية مثل “أيت ربعين”، التي تمثل شكلًا مبكرًا من الديمقراطية التوافقية. هذه المجالس كانت تُظهر قدرة المغاربة على إدارة شؤونهم اليومية بطريقة عملية، بعيدًا عن هيمنة السلطة الدينية.
كل هذه التجارب التاريخية تُظهر وعيًا مبكرًا لدى المغاربة بأهمية الفصل بين الدين والقانون لتحقيق استقرار اجتماعي يخدم الجميع؛ وأن المغرب كان دائمًا قادرًا على التوفيق بين الدين والدولة، بين الروحانية والحداثة، وبين التقاليد والانفتاح. التعددية لم تكن عبئًا على المغرب، بل كانت عنصر قوة، وإمارة المؤمنين كانت دائمًا حجر الزاوية في هذا التوازن.

توازن الدين والدولة: مفتاح النجاح المغربي
التجربة المغربية في إدارة التعددية تُظهر قدرة نادرة على تحقيق التوازن بين الدين والدولة. في هذا السياق، لا يُستخدم الدين كأداة للسيطرة أو الإقصاء، بل يُحافظ على مكانته كقيمة روحية وأخلاقية تعزز الوحدة. في الوقت نفسه، تضمن الدولة حيادها تجاه الاختلافات الدينية، ما يُتيح للجميع فرصة المشاركة في بناء المجتمع.

ففي بعض الأحيان، لا يقتصر التداخل بين الدين والسياسة على الخطاب السياسي فقط، بل يمتد إلى استخدام الدين كمصدر للشرعية السياسية. في هذا السياق، تُبرر بعض السياسات أو القرارات التي قد لا تخدم المصلحة العامة فقط لأنها تستند إلى مرجعية دينية. هذه الظاهرة تُضعف النقاش الديمقراطي، حيث تُغلق الأبواب أمام أي اعتراض أو نقد تحت ذريعة المساس بـ”الثوابت” أو خطاب التخوين، بل هنالك أطراف سياسية تستغل هذا المشترك بحملات إنتخابية شعبوية بدون أي برامج واقعية.

حين يُصبح الدين مصدرًا للشرعية السياسية، فإنه يُفقد استقلالية المؤسسات ويقوض الثقة فيها. بدلًا من أن تكون القرارات مبنية على أسس عقلانية ومنطقية تخدم مصلحة المجتمع، تتحول إلى وسيلة لترسيخ الهيمنة أو كسب رضا شريحة معينة. هذا الأمر لا يضر فقط بالمؤسسات، بل يؤدي أيضًا إلى تعزيز ثقافة الانقياد بدل الحوار، ما يُفاقم من الاستقطاب السياسي والاجتماعي.

إن إدخال الدين في السياسة يُقوض النقاش الحر والمنطقي. فكيف يمكن أن نناقش قضايا مثل الحريات الفردية أو المساواة إذا كانت هذه النقاشات تُواجه دائمًا بحجة “المساس بالمقدسات”؟ هذا الخلط يُعيق أي تطور ويُبقي على وضعية الجمود التي تعرقل تلبية تطلعات الأجيال الجديدة.

هذا التوازن الفريد بين الدين والدولة في النموذج المغربي أو العلمانية بصيغتها المغربية، والتي لا يجب أن يُنظر إلها كإقصاء للدين، بل كإطار يُعزز العدالة والتعايش، كما أنه يُتيح للدين أن يظل عامل توحيد وقيمة روحية عليا، بدلًا من أن يتحول إلى عامل صراع أو انقسام. إمارة المؤمنين كانت دائمًا العامل الحاسم في تحقيق هذا التوازن، ما جعل المغرب نموذجًا يحتذى به في التعامل مع التعددية.
الصوفية: تجسيد لعبارة “فاظمة تسن ربي، ربي يسن فاظمة”

الصوفية في المغرب تمثل التجسيد العملي للعبارة الشعبية “فاظمة تسن ربي، ربي يسن فاظمة”. في جوهرها، تُعبر الصوفية عن تدين عفوي وروحي، بعيدًا عن الصرامة والتشدد، يُركّز على العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه. في الزوايا الصوفية، لا توجد وصاية أو تعقيدات مؤسسية؛ بل هناك فضاء للتأمل الروحي والتقرب إلى الله بطُرق تُراعي الواقع الإنساني والثقافي.

على مر العصور، لعبت الصوفية دورًا محوريًا في تعزيز التدين المغربي باعتباره وسيلة للتسامح والعيش المشترك. الزوايا الصوفية لم تكن مجرد مراكز دينية، بل كانت أيضًا مؤسسات اجتماعية تُعزز من قيم التضامن والتكافل داخل المجتمع. هذا التدين الشعبي الروحاني يُشبه في طبيعته العلاقة التي عبّرت عنها العبارة “فاظمة تسن ربي”، حيث يمارس المغاربة إيمانهم ببساطة تُبرز تصالحهم مع ذواتهم ومع تنوع مجتمعهم.
الصوفية المغربية، من خلال رموزها، أسست نموذجًا يُجسد التعددية المغربية. لم تُعزز فقط العلاقة الفردية بالله، بل كانت عاملًا مهمًا في بناء روح التعايش داخل المجتمع المغربي، ما يجعلها اليوم منارة يمكن أن تلهم صياغة نموذج علماني محلي يحترم الهوية الدينية ويضمن حرية الجميع.

العلمانية والاستثمار في المغرب: رهان على الاستقرار والانفتاح

في بلد يعتمد اقتصاده بشكل كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع قطاعاته الاقتصادية، تُبرز العلمانية بصيغتها المغربية دورها كإطار حضاري يُعزز مناخ الأعمال والاستثمار. الحياد الديني للدولة، الذي يُعد من سمات النموذج العلماني، يضمن معاملة متساوية للجميع أمام القوانين والتشريعات، مما يُعطي المستثمرين الثقة في بيئة خالية من الانحيازيات الأيديولوجية.

تجربة المغرب الناجحة في قطاعات مثل الطاقات المتجددة والبنية التحتية ليست مجرد إنجازات عابرة، بل دليل على فعالية نهج يُركز على المصلحة العامة. ميناء طنجة المتوسط، الذي أصبح أحد أكبر الموانئ العالمية، يُعد نموذجًا واضحًا لما يمكن أن تحققه السياسات القائمة على الحياد والشفافية. فنجاح مشاريع كبرى كهذه لم يكن ليحدث لولا إطار قانوني يستند إلى العقلانية والعدالة، بعيدًا عن التأثيرات الدينية أو الثقافية.

السياحة المغربية: تنوع مدعوم بالانفتاح

السياحة، التي تُعد إحدى الدعائم الاقتصادية الكبرى في المغرب، تجد نفسها مستفيدة بشكل مباشر من قيم الانفتاح والتعددية التي تعززها العلمانية. المدن المغربية، مثل مراكش وفاس وأكادير، تجذب ملايين الزوار سنويًا بفضل قدرتها على تقديم تجربة تُجسد التنوع الثقافي والديني. في هذه المدن، يتجلى المغرب كمساحة مفتوحة للجميع، حيث يتعايش الإرث الإسلامي مع التأثيرات اليهودية والمسيحية في تناغم فريد.
هذه الصورة، التي تُظهر المغرب كوجهة تُرحب بالاختلاف وتحتفي بالتنوع، تُعزز من جاذبيته على المستوى الدولي. السياح من مختلف الخلفيات يشعرون بأنهم موضع ترحيب، ما يزيد من ثقتهم في استكشاف ثقافات وتقاليد مختلفة دون أي تمييز. العلمانية، بمفهومها المتوازن، تُتيح الحفاظ على هذا التنوع دون المساس بخصوصية أي مجتمع أو تقليد.


الحياد كدافع للتقدم الاقتصادي

الحياد الذي تدعمه العلمانية لا يقتصر على تعزيز الاستثمار والسياحة، بل يمتد ليشمل دعم الابتكار وتطوير القطاعات الإنتاجية. هذا الحياد يُمكن المؤسسات من العمل بكفاءة، حيث تُركز على تحقيق الأهداف الاقتصادية دون أن تتأثر بالاعتبارات الدينية أو الثقافية.
في قطاع الخدمات، خاصة مثل التجارة والخدمات اللوجستية، يظهر تأثير الحياد بوضوح. القوانين التي تُطبق بشكل عادل على الجميع تُسهم في بناء شراكات محلية ودولية طويلة الأمد. هذه البيئة تُعزز من ثقة الفاعلين الاقتصاديين وتجعل المغرب مركزًا للتجارة والاستثمار في المنطقة.


نحو نموذج مغربي فريد

المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لصياغة نموذج حضاري متوازن يجمع بين غنى موروثه الثقافي والديني ومتطلبات العصر الحديث. هذا البلد، الذي طالما عُرف بتاريخه الطويل من التعايش واحترام التعددية، لديه كل المقومات لتقديم رؤية متفردة تُبرز كيفية تحقيق الانسجام بين القيم الروحية والحاجات العملية لمجتمع حديث.

إن العلمانية بصيغتها المغربية ليست دعوة إلى التخلي عن الهوية أو الدين، بل هي إطار يُمكن الجميع من ممارسة معتقداتهم بحرية، مع ضمان إدارة الشأن العام بشكل عادل ومحايد. إنها دعوة لاستثمار هذا التنوع الذي يُميز المغرب، وتحويله إلى مصدر قوة واستقرار، بعيدًا عن استغلال الدين في الصراعات السياسية أو الأيديولوجية.

على الصعيد الاقتصادي، يُعد الحياد والشفافية أدوات حيوية لجذب الاستثمارات وتعزيز قطاعات حيوية كالسياحة والتجارة، مما يُمكن المغرب من تعزيز موقعه كجسر بين الثقافات والاقتصادات. هذه القيم ليست فقط ضرورة محلية، بل رسالة يُمكن أن تلهم دولًا أخرى تبحث عن حلول لإدارة تنوعها.

النقاش حول العلمانية ينبغي أن يكون فرصة لتعميق الحوار الوطني، بعيدًا عن الاستقطاب والتخوين، وبروح تسعى لتكريس العدالة والحرية للجميع. المغرب، بتاريخه وتجربته الفريدة، قادر على أن يُقدم نموذجًا عالميًا يُظهر كيف يمكن للدين والحداثة أن يتكاملا دون صدام.

بهذه الرؤية، يُمكن للمغرب أن يواصل مسيرته كمنارة للتسامح والتعددية، قادرًا على تحويل تحدياته إلى فرص تعزز مكانته الإقليمية والدولية، وتُرسخ قيمًا إنسانية مشتركة تُلهم أجيال الحاضر والمستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.