سلطة الموقر عبد الرحمان اليوسفي!

0 1٬024

ذ. جمال مكماني

غالبا ما تتم صناعة الشخصيات المؤثرة في الرأي العام عبر العالم خلال العقود الأخيرة من طرف وسائل الدعاية بمختلف أشكالها، لكن شخصية “اليوسفي” استطاعت أن تفرض نفسها على الجميع دون الحاجة إلى دعاية كيفما كان نوعها؛ لقد واجه دعاة التعقيد بالبساطة، والمثرثرين بالسكوت، و المسربين لِأَسْرَارِ المجالس بالكثمان، والمُسْرِفين بالتقشف، ولهواةٍ الضجيج بحكمة الصمت، والهَرْطَقَة بالبلاغة، والسفسطة بالخطاب المنظم، والإصرار على استمرارية الظهور بالإختفاء، والهرولة إتجاه الأضواء بالإنسحاب بهدوء… هكذا استطاع سي عبد الرحمان أن يكون شخصية تنال الإحترام والتقدير من طرف الرفاق والزملاء والأصدقاء والمتتبعين والأعداء والخصوم…

لقد حاول ميشيل فوكو في تحليله لمفهوم السلطة أن يقتفي الآثار المترتبة عليها، واعتبرها نِتاج لعلاقات وكيانات إجتماعية منضبطة، لكن سي عبد الرحمان إنسحب من جميع فضاءات التأثير وظل مؤثرا، وفي الوقت الذي كان يتوقع الجميع تحدثه لكي يفهمون إشاراته الثاوية خلف كلامه كان يفاجئ الجميع بصمته المستفز. لقد كانت له منهجيته الخاصة في التأسيس لسلطته الخاصة على جميع من تعاملوا معه.

لقد اعتبر رجل الإختصاص في مفهوم السلطة داخل علم الإجتماع السياسي المعاصر (ميشيل فوكو) أن المعرفة هي أكثر المجالات دلالة على إنتاج السلطة، وخاصة العلوم الإجتماعية التي تنصب حول إنتاج أجساد منصاعة وعقول خاضعة، لكن اليوسفي لم ينظِر في علم الإجتماع ولم يتقاسم كواليس تجربته – كوزير أول- مع أيٍّ كان، كما أنه لم يتهافت إلى إنتاج مادة معرفية علمية بخصوص التجربة السياسية داخل المغرب المعاصر، لقد أحرج أولئك المتياسرين الذين ينتظرون بوحَه من أجل المواجهة أمام محكمة وضعت على المقاس نظريا أكثر منها واقعيا، لكي تتاح لهم فرصة جلده على ما لم يستطع تنفيذه من طوباوية حالمة أمام انتصاب موضوعية الواقع.
الواقع الحقيقي الذي يسبق في وجوده وجود كل الأنساق الفكرية التي تزعم إلمامها به في لا محدوديته؛ بينما سي عبد الرحمان كما لو أنه كان يعلم علم اليقين، أن العبارات والقواعد اللفظية الحاكمة لمنطق المتياسرين وليس اليساريين طبعا، هي بمثابة الدوران في الدائرة المفرغة، لأنه لا وجود لمعرفة- على الأقل لحد الآن- قادرة على تقديم الواقع كما هو دون تدخل أو تأثير أو تعديل.

إن ميشيل فوكو كمتخصص في هكذا نقاش (المرتبط تحديدا بتحليل مفهوم السلطة في علم الإجتماع المعاصر) يرى بأن النزعة الذاتية في الحكم على الأشياء هي إحدى النتائج البارزة للسلطة، وما إقتفاؤه لآثارها لتحديد الهويات المتسلطة والخانعة من وراء إنتاجها إلا إيمانه بكون السلطة عبارة عن قوة مهيمنة جبارة لا تحيد عن مواقفها، لكن عبد الرحمان اليوسفي لم يلجأ في عملية بناءِ صورته الرمزية لدى العموم، إلى انطباعات شخصية، روج من خلالها لطهرانية ممارسته بشكل منفرد مشيطِنا من خلالها ممارسات الرفاق والشركاء والفاعلين والتكنوقراط والشمال والجنوب والغرب والشرق، بل مارس سلطته وهو حيا كما وهو ميتا؛ إن سلطته ناتجة عن إحترامِ الجميع دون حاجة إلى الكثير من الأضواءِ والإبتزاز، مارس القيادة في العلن من خلال مقود تجربة التناوب ومارسها أيضا من خلال سكوته المستفز للفضوليين والباحثين عن الإثارة، كان مسؤولا في سياق ميزته الأساسبة التحفيز عن الفوضى واللامسؤولية. لذلك يمكن القول أن فوكو قد كان صادقا بخصوص حالة القائد عبد الرحمان اليوسفي لما قال ” السلطة مكوّنٌ رئيسٌ في كل شيء، ليس لأنها شاملة لكل شيء، بل لأنها نابعة من كل شيء… إن السلطة ليست مؤسسة بعينها، ولا بنية إجتماعية محددة، أو ماديات تمتلك، بل هي الإسم الدال على موقف استراتيجي معقد”، وسلطة عبد الرحمان اليوسفي على الرأي العام لم تكن محكومة بمهامه كوزير أول قاد حكومة في ظرف صعب إبان تجربة التناوب، ولا بإرثه النضالي الذي لا يمكن لأي عقل سليم أن يزايد عليه بإسم المبدئية أو يتهمه بالإنتهازية؛ لقد نجح نجاحا باهرا في تقزيم حجم خصومه حتى بعد رحيله، لأنه كان زاهدا في ملذات الحياة ومقاوما لسوءٍ ما تأمر به النفس، عاش غني الروح ومات كذلك.

في كتاب لفوكو بعنوان “المواطن والسلطة” The Subject and Power تناول من خلاله العلاقة بين السلطة والهيمنة والمقاومة في المجتمع المعاصر، معتبرا أنها علاقة وثيقة لا انفصام لها؛ فحيثما تفرض السلطة هيمنها، تولَدُ المقاومة، فالسلطة تمارس هيمنتها على الأحرار الذين يحملون قلوبا تحِسُ بضرورة المقاومة، وأجسادا غير خانعة ولا خاضعة، لكن في حالة الراحل عبد الرحمان اليوسفي لم تظهر سلطته الناعمة على الجميع كما ولو أنها هيمنة، بل إنها مقبولة من تلقاء ذاتها بناء على عفويتها وارتباطها التاريخي بمفهوم ” لَحْيَا” كما تم نحته في المخيال الشعبي للمغاربة؛ بحيث من الصعوبة مهاجمة شخص لم يشهد التاريخ بكونه كان طرفا يوما ما في الأمور التي يتنازع عنها الصِغار، لقد نأى بنفسه عن الحروب الصغيرة، وحدد معركته في عناوين كبرى للمعارك العظمى، التي اعتبرها بمثابة خلاص للإنسان كيفما كانت هويته وطبائعه. لذلك فإننا نعتز كثيرا بإنتمائنا لبلاد إسمها المغرب، تنتج كائنات طروادية تعيش خارج منطق التفكير الضيق المرتبط بالمصلحة الذاتية الضيقة، وكائنات سياسية تحافظ على مثالية الفعل السياسي المبني على العطاء السياسي بلا حدود؛ عبد الرحمان اليوسفي لم يمت وسوف يبقى حاضرا بيننا لأن سلطته في ذلك سوف تكون قاهرة لكل مقاوم لمثل هذه النماذج من أبناء الوطن التي تؤمن بالعطاء بلا حدود وتقاوم كل أشكال التعاطي الإنتهازية مع الوطن لأن الوطن كلمة تستحق كل التضحية…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.