في افق تخليق الحياة السياسية بالمغرب

0 312


د. أحمد طوالة
أستاذ جامعي

تشكل عملية تخليق الحياة السياسية حصنا واقيا لحياة الأفراد والشعوب والأمم، و هي ركيزة أساسية للبناء الديمقراطي ولضمان النزاهة والشفافية ، وهكذا فان التخليق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نهج متكامل تشاركي متعدد الأبعاد، لأنه قضية مجتمعية بالدرجة الاولى. لهذا، أضحى تخليق الحياة السياسية بالمغرب الآن ذا راهنية قصوى و موضوعا أساسيا للنقاش المجتمعي لما يثيره من اسئلة حساسة و اشكاليات مؤرقة و تحديات داخليا و خارجيا.

وفي هذا السياق، أصبح ترسيخ تخليق الحياة السياسية خيارا استراتيجيا للدولة ولجميع مؤسساتها المعنية، فمسألة إضفاء الطابع الأخلاقي على الحياة السياسية في المغرب هي مسألة مركزية انطلاقا مما أكدته الخطب الملكية السامية و المرجعية الدستورية، فقد أعرب جلالة الملك محمد السادس مرارا وتكرارا عن التزامه بتحديث مؤسسات المملكة، وتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،و تجويد الفعل الترابي محليا و جهويا . و هو ما أكده صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بمناسبة عيد العرش 2023 “الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية: من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة.

و نستحضر في هذا الشان الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الذكرى الستين لتأسيس البرلمان المغربي ، التي حثت على وضع “مدونة أخلاقية” ملزمة للبرلمانيين. و هي دعوة صريحة لاستكمال بناء ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، على أساس فصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة.

و بالرجوع الى مقتضيات دستور 2011 ، ونجد الفصل 36 ينص على أنه:”يعاقب القانون على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح ، وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه ، وكل مخالفة ذات طابع مالي … من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية ، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها ، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها ، والزجر عن هذه الانحرافات”.


و بناء على ما سبق ،فان تخليق الحياة السياسية بالمغرب يتطلب أولا تخليق العمل الحزبي والهيئات السياسية كلها، و هو ما يستوجب تخليق المسار الانتخابي برمته بدء من عملية انتقاء و تزكية وانتخاب أشخاص لشغل مهام تمثيلية و نيابية، لا تحوم حولهم شبهة، و بذلك تتحقق فيهم مبادئ النزاهة و الشفافية و الكفاءة، بالإضافة الى الدور التأطيري للأحزاب للمنتخبين مع التركيز على تقوية قدراتهم التواصلية و تملكهم المعرفة القانونية الخاصة بالمجالس المنتخبة من اختصاصات و أدوار ، و ذلك في اطار بناء ديمقراطية داخلية للأحزاب تقوم على أليات و معايير تواكب التطورات التي تشهدها بلادنا داخليا و خارجيا ، بعيدا عن الشعارات الجوفاء و الرنانة في الوقت نفسه التي تساهم فقط في رفع نسبة العزوف السياسي و الانتخابي خاصة في صفوف الشباب ، هذه الفئة العريضة تمثل نسبا عالية في الديموغرافية بالمغرب ، التي وجب اليوم اقناعها و التأثير في مواقفها من أجل المشاركة في العملية السياسية ببلادنا في أفق تخليق الحياة السياسية بالمغرب.

لقد حان الوقت ،اليوم، لكل الفاعلين السياسيين التواصل الفعال و الناجع مع المطالب الاجتماعية والسياسية المتطورة للمواطنين ، من خلال ابداع في تبني بدائل سياسية واقعية و قابلة للتنفيذ في حيز زمني معقول ، و ابتكار برامج سياسية خلاقة تستجيب لكل الاصوات المجتمعية ، و تلبي انتظارات كل الفرقاء السياسيين و الاقتصاديين و الاجتماعيين.

و في هذا الاطار ، تتحمل الأحزاب السياسية كذلك مسؤوليتها إلى جانب المواطن في الوضع الحالي، لذا وجب على الاحزاب وضع آليات تُمكن من احداث مدونة أخلاقية بشكل تشاركي و العمل على تنزيلها وتتبعها بشكل جيد، استجابة أولا للدعوة الملكية وترجمة لمجموعة من المبادئ المتضمنة في دستور المملكة.

إن قضية إحداث مدونة أخلاقيات حزبية و سياسية أضحت مسألة لا مناص منها نظرا لكون الحياة السياسية الوطنية تغلغلت فيها مجموعة من الظواهر التي تمس جوهر الأخلاق السياسية من قبيل العائلية السياسية على مستوى النخب و الفاعلين السياسيين وكذا الاستعمال المفرط واللاقانوني للمال الشيء الذي أدى الى بروز ظاهرة غريبة على الحياة السياسية ألا وهي زواج المال والسلطة مما ساهم بشكل جلي في فقدان الثقة و المصداقية في الفاعل السياسي و رفع من نسبة العزوف والنفور من مختلف الفئات للمشاركة في الحياة السياسية وتدبير الشأن العام.

ان المساهمة في هذا الورش الإصلاحي يجب أن تصاحبه كذلك ارادة حقيقية في إخراج منظومة قانونية إلى حيز الوجود ككل و لاسيما مدونة الانتخابات التي ينبغي أن تثمن تراكمات بلادنا في هذا الباب، و الدينامية السياسية التي انخرطت فيها بلادنا.
و في الختام ،لابد أن نشير الى أن تحقيق و تكريس هذه العملية ، لن يتأتى بالاقتصار على الاعتماد على الترسانة القانونية و مجهودات الأحزاب السياسية في هذا الاطار، وانما يستلزم ذلك تظافر الجهود و النوايا الحسنة بين مختلف الفاعلين و مكونات المجتمع المدني باعتماد مقاربة تشاركية لا تقصي أي جانب مهما كانت الاختلافات ،و التوفر على ارادة حقيقية مبنية على تغليب المصلحة العليا للوطن ،و هي أمور من شأنها أن تساهم بشكل فعال في بلوغ الهدف المنشود و تحقيق التفعيل الواقعي لتخليق الحياة السياسية بالمغرب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.