كورونا واليومي

0 844

جمال مكماني

أتاحت أزمة فيروس كورونا فرصة هائلة للإنسان من أجل مساءلة العديد من القضايا التي تهم المعيش الإنساني، سواء في شقه الجماعي أو الفردي. وإذا كانت تداعيات ذلك، تتجلى بشكل واضح على المستوى الإجتماعي والإقتصادي، نتيجة الإهتمام الإعلامي بذلك. فإنها على المستوى الفردي، تحتاج منا إلى الحفر عنها وإبرازها، خاصة وأنها تختفي وراء حُجُبٍ وستائر غالبا ما تتخفى في صورة المعتاد. ولعل من أهم ما يمكن أن نقف عليه في هذا الجانب، هو اليومي le quotidien باعتباره مشكلة وجودية. إذن فكيف يمكن لهذه الأزمة (كورونا) أن تساهم في مساءلة اليومي؟

إن اليومي هو ذلك الحاضر أمامنا دوما ولكن من شدة حضوره يمر من أمامنا دون أن نراه، إنه يختفي وراء حجب وستائر. اليومي حسب الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي هو ما نراه ولكن ليس ما نراه. كلما ظهر لنا اليومي فهو يتوارى خلف الصورة الذي يظهر بها، إنه بمثابة الظل الذي لا يعكس حقيقة الشيء. لكن ماهي الصورة أو الصور التي تأخذ شكل القناع الذي يختفي وراءه لليومي؟

القناع الأكثر خطورة على اليومي هو قناع العادة، لأن العادة تتحول إلى سلطة تترسخ تدريجيا بفعل التكرار الآلي والمنتظم، حيث تبدو لنا جميع الأشياء مفهومة من تلقاء ذاتها، أي بديهية وشفافة. إننا نقوم بالعديد من السلوكات اليومية، ومن كثرة تكرارها لا نتيح لأنفسنا فرصة التساؤل بخصوص أهميتها، لأنه وبكل بساطة، تبدو لنا أنها لا تحتاج إلى ذلك، لا تحتاج منا لا للتفكير فيها، أو لحتى الشك بخصوصها وإخضاعها للتأمل الذاتي. وبسبب الإفراط في الوضوح والرؤية بخصوصها تتحول إلى شيء متأصل فينا كطبيعة، لذلك كان أرسطو يقول ” إن العادة طبيعة ثانية”، وهنا يكمن سبب قوتها وخطورتها على اليومي.

من أجل القبض على اليومي ولكي نراه حقيقة، أي لكي نفكر فيه ونجعله بارزا وغير مستتر خلف قناع العادة، علينا التمرن على التحرر من حجاب وقناع العادة. وهنا تعتبر تجربة الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا مهمة جدا، من زاوية إتاحة الفرصة للإنسان من أجل التفكير وإعادة التفكير في اليومي الخاص به، وهنا سوف يقوم بتقييم هاديء للمعنى le sens الذي كان يمرره اليومي في غفلة من قدراتنا وإدراكاتنا ووعينا، بحيث يغدو السلوك ممارسة اعتيادية غير مفكر فيها، خاصة وأن الفرد ميال بطبعه إلى الإنغماس في الحياة اليومية حد الذوبان فيها. لذلك يصبح من الصعب جدا مساءلة اليومي الخاص بنا، إلا إذا ما تمكنا من قهره وأخذ مسافة منه، والتعامل معه بشكل مباشر خارج الصورة التي يختفي من ورائها.

إن تجربة الحجر الصحي هي تجربة قاسية، فهي شبيهة بفطام الطفل، وتزداد قساوتها إذا لم نفهم عمقها أولا ثم إضفاء طابع المعنى عليها ثانيا؛ فبدون المعنى le sens – الناتج عن الفهم- الذي ينبغي أن تتخذه هذه التجربة سوف تنتهي إلى مأساة حقيقية بالنسبة للتجربة الشخصية للفرد. إن ما نفتقده خلال تجربة الحجر الصحي ليس اليومي الخاص بنا، وإنما المعنى الذي كنا نعطيه لذلك اليومي، وهو معنى زائف لأنه مرتبط بالعادة التي كان يتستر خلفها. لأن حقيقة الأمر تكمن في التحكم فيه بدل تحكمه فينا، فحتى من داخل الحجر الصحي يوجد اليومي الخاص بنا وما علينا إلا أن نحسن تدبيره فقط، وذلك بالرجوع إلى المسائل التي تربطنا به، وجعله موضوعا للتفكير.

إن مشكلة اليومي تكمن أساسا في محاولة الإمساك به، لأننا ننظر إليه من زاوية العادي والنسبي والمتغير، لذلك لطالما تعاملنا معه بنوع من التعالي وجعلناه في خانة كل ما هو بديهي وساذج. وبالتالي خسرنا إحدى أهم الأسئلة المتعلقة بوجودنا، آلا وهي أسئلة الحياة اليومية التي ستفقد معناها نتيجة عدم مساءلتها واستخراج مكنوناتها، فاليومي الخاص بنا، إذا ما تم استنطاقه بطريقة علمية، يظهر بوصفه حاملا لمجموعة من الأفكار والمقاصد. وهنا أعطي مثالا بتلك الممارسات التي ندمن القيام بها، والتي لا تتاح لنا فرصة التفكير فيها، حيث يصبح معناها يكمن في القيام بها فقط، فما هو المعنى الثاوي خلف تشغيل جهاز التلفاز مباشرة بعد دخولك إلى المنزل؟ دون أن تجلس أمامه!!! وما العلاقة التي تجمع بين شرب القهوة قبل أو بعد العمل مباشرة؟!!! …

عموما يمكن القول أن دفع الإنسان إلى التضايق من يوميه، وتوجيهه نحو استكشاف حياته الحقيقية بدل ظلها، والتأسيس لانفلاته من قبضة اليومي، هو حلقة مهمة من سلسلة مسيرة فهم الإنسان لذاته. لقد قال سقراط “لا ينبغي أن تكون انشغالاتنا ناتجة عما نمتلكه وما لا نمتلكه، بل عما نحن إياه وما لسنا إياه”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.