مأساة حادثة الطفل ريان في مرآة العالم .. المغرب زحزح جبلا كاملا من مكانه لإنقاذ ابنه
بقلم: أنــس بلـمـكي
لمدة خمسة أيام (من يوم الثلاثاء 1 فبراير الجاري إلى يوم السبت 5 منه) شُدت أنظار المغاربة والعالم إلى قرية نائية من أقاصي جبال الريف بشمال المملكة (قرية إغران ـ تموروت بإقليم شفشاون)، حيث سقط الطفل ريان في جب عميق (عمقه 32 مترا) في غفلة من أهله وأبناء مدشره وجيرانه وكل العابرين، لكن الصدف ومشيئة الله أرادت أن تجعل من هذا الحادث المأساوي جدا محطة للتأمل وأخذ الدروس والعبر ليس للمغاربة فقط وإنما للإنسانية جمعاء.
لقد صدق من قال بأن عالم اليوم أصبح قرية صغيرة، فبفضل التكنولوجيا الحديثة – وفي زمن قياسي – علت صور ريان، وهو في قعر البئر، شاشات الهواتف والحواسيب والتليفزيونات الوطنية والدولية، لتتقاطر حشود المواطنات والمواطنين إلى عين المكان أملا في إنقاذ هذا الصبي المعجزة، وتتعالى أدعية المغاربة، وغير المغاربة، تضرعا إلى الله بأن يحفظ هذا الطفل من كل سوء ويبقيه على قيد الحياة ويعود إلى أسرته وأهله سالما معافى.
وأمام كل ذلك، لوحظ أن الأمر قد أخذ على محمل الجد من قبل السلطات العليا للبلاد، حيث لمس المغاربة بأن ثمة جدية غير معهودة في التعامل مع الحادث، بعد أن تم تجنيد كل الطواقم والاستعانة بكل من بوسعه تقديم يد العون في هذه الحادثة، سواء كان من السلطات المعنية أو المواطنين العاديين، فسارت أشغال الحفر وفق الكيفية التي عاينها العالم بأسره، الشيء الذي خلف الكثير من الاطمئنان في صفوف المواطنات والمواطنين الذين وضعوا أيديهم على قلوبهم، وتركوا كل أعمالهم وقضاء مآربهم جانبا ليتسمروا أمام الشاشات الناقلة لتفاصيل الحدث في بث مباشر… وأملهم الوحيد هو نجاة الطفل البريء ريان الذي هتف باسمه الكبير والصغير في مختلف أصقاع المعمور.
صحيح أن إرادة الله هي الأقوى، فقد شاءت الأقدار أن يجاور هذا الطفل الملاك ربه، إذ لا راد لقضاء الله. لكن هذه المأساة جعلتنا جميعا نعود قليلا لأنفسنا لنكتشف أن ثمة أشياء كثيرة لا تزال تجمع المغاربة كأمة عظيمة بإمكانها أن تصنع المعجزات، فلا أحد بوسعه أن ينكر كون المغاربة، كلهم وبدون استثناء، كانوا مستعدين للتضحية بالغالي والنفيس لأجل إنقاذ ريان.. وهذا شعور ينبغي أن نوفيه حقه ونتأمله في خضم هذه الحياة التي فرضت شروطها وإيقاعها القاسي على الجميع. وأحيانا علينا أن نصيخ سمعنا للآخرين كي نعرف ذواتنا.. فقد شهد العالم أن المغرب بلد أصيل والمغاربة شعب عظيم، لأنهم زحزحوا جبلا كاملا من مكانه في سبيل إنقاذ طفل صغير (ابنهم).
وهذه شهادة لا يجب الاستهانة بها، فالأمر يتعلق هنا بمكسب ينبغي ترصيده والحفاظ عليه، وبالتالي جعله بذرة أمل تغرس في نفوس الجميع لبناء مجتمع متضامن ومتماسك ومتآخي… وهذا سر من أسرار قوة الشعوب ونجاحها في نقش مكانتها بين الشعوب والأمم المتحضرة. بل إن تلك الجدية التي وسمت عملية الإنقاذ وشفافيتها هي التي دفعت بكل البشر من مختلف الأعمار والديانات والثقافات والقارات والحكومات… لأن تعرب عن تعاطفها الكبير مع الطفل وأسرته والمغرب والمغاربة بشكل عز نظيره.
والحال، وجب علينا كمغاربة أيضا أن ننتبه إلى كون إيقاع الحياة المتوتر قد أجبر البعض منا على ألا ينظر أبعد من بطنه، وهذا منطق غير سليم؛ إذ رغم التطور الملموس الذي شهده المغرب خلال العقود الأخيرة في شتى المجالات.. فإنه لابد من أن نقر بأن هناك نتوءات وفوارق كثيرة بين حياة الرفاهية التي يحياها بعض المغاربة بالمدن، وتلك الوضعية المزرية التي يئن تحت وطأتها ساكنة العالم القروي ببعض القرى النائية، حيث لا يزال المواطن يعاني ويتعذب لأجل الظفر بقطرة ماء لإرواء عطشه.
وعليه؛ فإن الروح العظيمة التي أبان عنها المغرب (ملكا وحكومة وشعبا) في مأساة الطفل ريان، يجب أن تترجم إلى بذل المزيد من الجهود، على أرض الواقع، لإيلاء العناية القصوى للإنسان في المناطق القصية والمنسية من المغرب العميق، إذ على الدولة أن تستنفر كامل قواها لتوفير الشروط الأساسية اللازمة للحياة الكريمة لهؤلاء المواطنات والمواطنين.. صحيح أن تعاطف الجميع مع أسرة الشهيد ريان قد تنتشلها من الوضعية البئيسة التي كانت عليها.. لكن المشكل لا يتعلق بأسرة ريان لوحدها بل بأسر وعائلات كثيرة في تمروت وأنحاء متفرقة من بلادنا الغالية.. مما يستدعي المزيد ثم المزيد من العمل والتضامن لإقامة عدالة مجالية مقعدة لأسس الانتفاع المنصف والمتساوي من خيرات البلاد لفائدة المغاربة قاطبة ومن دون تمييز.
رحم الله الطفل ريان وأسكنه جنات الخلد وألهم أسرته وذويه الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.