من أجل فهم مغاير للحداثة

0 1٬196

جمال مكماني

من خلال كتابه ” براديغما جديدة لفهم عالم اليوم” Un nouveau paradigme : Pour comprendre le monde d’aujourd’hui يعتبر آلان تورين أن وجود الحداثة رهين بتوفر مكونين إثنين وهما؛ الإعتقاد بالعقل والنشاط العقلي، بحيث أن الحضارة الحديثة تنبني على التكنولوجيا والحساب والدقة وتطبيق نتائج العلم على ميادين متنوعة من حياتنا وحياة المجتمع. وثانيا؛ الإعتراف بحقوق الفرد، أي الإنطلاق من الشمولية التي تعطي لجميع الأفراد الحقوق نفسها، بغض النظر عن أوضاعهم الإقتصادية أو الإجتماعية أو السياسية.

من خلال هذين المكونين المحددين لوجود الحداثة، سجّل آلان تورين ملاحظات دقيقة بخصوصهما حيث إعتبر أنه من اللافت للنظر، أن العقل لا ينبني على الدفاع عن المصالح الجماعية أو الفردية، بل يتأسس على ذاته وعلى مفهوم الحقيقة ولا يتم إدراكه بمصطلحات إقتصادية أو سياسية، وبذلك فالعقل أساس لاإجتماعي للحياة الإجتماعية. ونفس المنطق ينطبق عن الإعتراف بحقوق الأفراد، والنتيجة التي يخلص إليها من خلال هذه الملاحظات، هي كون المجتمع الحديث يتأسس على مبدأين أساسيين ليسا من طبيعة إجتماعية هما : النشاط العقلي والإعتراف بالحقوق العامة لكل الأفراد.
إن ما نعيشه اليوم -يضيف آلان تورين- هو تهدم المجتمع، أي تهدم الرؤية الإجتماعية للحياة الإجتماعية ومجموع المقولات التي تحصّنا من وراءها منذ أكثر من قرن. إن المجتمع يتفتت أمام أنظارنا على نحو متسارع؛ وعلى أنقاضه تتقدم قوتين هما: القوى المطبعة(naturalisées) وهي قوى غير منضبطة تتشكل من قوى السوق والحرب والعنف. وقوى الدعوة اللاجتماعية إلى الحقوق والعقل وهي قوى؛ تشكل العقلانية والحرص على الحقوق الإنسانية الشاملة عناصر مركزية فيها. فصحيح أن عالمنا اليوم محكوما أكثر بالقوة ولكن أيضا، أكثر اهتماما بخيارات أخلاقية باتت تحتل مكانة محورية في الحياة السياسية، وتلقى إقبالا وتجاوبا متزايدين. إننا أمام حداثة تتوطد مبادئها على أنقاض الأنظمة الإجتماعية، متمثلة في الإيمان بالعقل والإعتراف بالحقوق الفردية الشاملة.

إن النموذج الإجتماعي الغربي للحداثة هو نموذج مستمد من مباديء الحداثة حسب آلان تورين، لأنه ينتظم حول فكرة مجتمع يصنع ذاته. إنه حركة، تحول ذاتي، تدمير ذاتي، تدمير للذات تمهيدا لإعادة بنائها. وهناك فرق بين الحداثة والتحديث، فالتحديث ليس شرطا كافيا وضروريا للحداثة، لأن الجديد لا يصنع من الجديد الخالص، بل من القديم أيضا. الحداثة هي عملية خلق تتجاوز مجالات تطبيقها، لأن لهذه كلها وجها آخر هو وجه إعادة تأويل ما قبل- المحدث.

إن فكرة الحداثة – من خلال كتاب ” براديغما جديدة لفهم عالم اليوم”- تحمل في ذاتها توترا يستحيل تجاوزه بين العقل وحقوق الأفراد من جهة، والمصلحة الجماعية من جهة ثانية، لذلك فمبدأي الحداثة لا يصيران واحدا، بل يمكن أن يدخلا في منافسة: فالعمل العقلي لا يكون دوما مطابقا للحقوق الفردية، كما أن الحقوق الفردية غالبا ما تمارس ضد الفكر العقلاني.

إن المُتَعِية (hédominisme) التي يقترحها الفكر النيوليبرالي حسب تورين، من بين حسناتها أنها غير مناوئة لرغباتنا لكنها لا تضمن حرية الإختيار لأولئك الذين يتأثرون بالتسويق. وهذه المتعية هي بعيدة كل البعد عن مفهوم الحداثة ، فليس الإستهلاك المتسارع والمتنوع هو الذي يجعل من المجتمعات أكثر حداثة.
يقر آلان تورين من خلال كتابه المذكور أعلاه، أننا قد أصبحنا نعيش أمام عالم يتحدد بشكل مغاير عما ألفناه، أي من خلال تصارع قوى السوق والحروب والكوارث مع الحداثة، مع الذات الفاعلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.