“نقطة نظام” وسوء الفهم
تعتبر ردود أفعال بعض المنتسبين إلى حزب العدالة والتنمية ضد مقالة الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة المعنونة بـ”نقطة نظام”، والتي لم تخرج، أي هذه الردود، عن مخروطية الكلام المتهالك الذي أصبح ضارا، لحظة حقيقية للتفكير في اجتثاث جيل طارئ وسائد من التجاذبات الصوتية والكتابية في السياسة، و التي برزت بعد عشرين فبراير واستفحلت بإقرار دستور2011. الأساس الضار لهذه التجاذبات التي تسلطت على النقاش العمومي و انقلبت على المعنى الأسمى لمفهومه وغائيته، يتمثل في أدلجة المظلومية وخلق سوق من الكلام والشعارات لمركزة دعوى “امتلاك الحقيقة” السياسية ورفضها لكل المكونات المغايرة أو المضادة. ولئن كان ذلك هو حال كل التنظيمات المسيّسة للدين، ومنها حزب العدالة والتنمية، فإن آفة اختراق النقاش العمومي بخلفيات التسييس المغلق للمشترك الثقافي والرمزي،بهدف إمتلاكه وتوجيهه إيديولوجيا، قد تسبب في تلويث موضوع ومفهوم ووظيفة السياسة. لأن إحداث سوق عشوائي للسياسة، الذي تأسس منذ حكومة بنكيران، تمردا على الانتظام العادل للنقاش الموضوعي وأخلاقية الحوار والتدافع المحكوم بمرجعيات مضبوطة وواضحة، أنتج شروخا عميقة في الوعي الجمعي بجدوى السياسة والعمل الحزبي ، وتسبب في ألم وجداني بليغ لدى المغاربة، حفزهم على المقاومة خارجا عن الإطارات الحزبية، وبلغات مختلفة.
إن لغة التمحل والتزيد والاختلاق الذي لحقت مقالة الأمين العام حكيم بن شماش، من طرف بعض المنتسبين لحزب العدالة والتنمية، و التي تسعى إلى إنعاش هذه السوق التي أصبحت الآن بائرة، وكاسدة، لن تصيب هدفها أبدا. لأن مغاربة ما بعد 20 فبراير ليسوا هم بمغاربة اليوم، و حزب العدالة والتنمية اليوم ليس هو نفسه بحزب الأمس، لقد سقطت أوراق التوت فتعرت الفروع، سقط القناع وانكشفت الملامح والقسمات.
أما عن الفقرة الأخيرة من المقالة التي جاء فيها”إن حزب الأصالة والمعاصرة، المسكون بهواجس المساهمة في البناء، لا يجد حرجا في طرح السؤال الذي يتحاشاه كثيرون: هل يستقيم كبح ورهن إمكانات التطور الوطني باسم “شرعية انتخابية” هي في الواقع ليست شيئا آخر غير “شرعية” قاعدة انتخابية لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا لمجتمع يريد أن يتقدم إلى الأمام؟”، فهي مجرد تساؤل موضوعي وواقعي ، لايشكك به في نزاهة الانتخابات كما زعم البعض بنية مبيتة . أما أن هذا التساؤل استفزازي لهؤلاء ، فذلك لأنه جاء محكوما بأربعة حقائق:
1- إن حزب العدالة والتنمية، الذي يتوهم تمثيله لقاعدة عريضة من الشعب، لا يمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من هذه القاعدة. فإذا كان عدد المسجلين نحو 6.752.114 ناخبة وناخبا” من أصل قرابة 15.7 مليون مسجل، و قد حصل منها على يقرب من مليون و600ألف صوت ، وهي نسبة هزيلة جدا بالمقارنة مع عدد المسجلين، فهذا يعني أن العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة اليوم لا يمثل حقا عامة المجتمع ولايعكس أبدا الإرادة السياسية لأغلبية المغاربة. هو حزب حاضر بأقلية ضعيفة فقط.
.
2- لم تولد هذه الحكومة في وضعية سياسية عادية، قبلت بكل التناقضات الداخلية، ورضي الحزب الذي يتزعمها بقتل الأب والانتصار لإرادة الرغبات الذاتية في الإستوزار . فشلت في أول تمرين سياسي / اجتماعي وهي تواجه، مباشرة بعد تنصيبها احتجاجات الحسيمة التي تطورت إلى ما يشبه الانفلات.
3- تصادم هذه “الشرعية الانتخابية” مع الرغبة الحقيقية للمغاربة في إسقاط هذه الحكومة التي لا تستجيب لتطلعاتهم المشروعة. ومن ثم فإن تمسك هذه الحكومة بموقعها اختباء وراء الدستور ضدا على إرادة أغلبية المغاربة ، هو نوع من القصور الأخلاقي القائم على التعنت السياسي الذي يتسبب ،في حالة استمراره ، خطر انفلات اجتماعي مرتقب . وهو الأمر الذي أشارت إليه المقالة؟( نقطة نظام) في فقراتها الأولى.
4- يعتبر استمرار هذه الحكومة إلى غاية الانتخابات القادمة بحجة الشرعية الانتخابية، منعزلة عن الشعب واحتجاجاته اليومية، تهديدا مباشرا لما تبقى من معنى للسياسة ، لأن شرودها السياسي وتنافرها الداخلي وانهمامها بشكليات التسيير وبروتوكولات التدبير ، جعلها خارجا عن السياسة ، وخارجا عن المجتمع. وهذا يعني الإجهاز على الثقة في الأحزاب السياسية و تعميق العزوف بكل أبعاده وأشكاله .
تأسيسا على ذلك، ذكرت المقالة ( أن رهن إمكانات التطور الوطني باسم “شرعية انتخابية” هي في الواقع ليست شيئا آخر غير شرعية قاعدة انتخابية لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من مجتمع يريد أن يتقدم إلى الأمام). وهذا الكلام لا يعني البتة تشكيكا في نزاهة الانتخابات ، ولم يسبق لحزب الأصالة والمعاصرة أن عبر عن هذا الموقف الذي لا يُؤْمِن به.
إن تأويل خرجات الأمين العام، عبر الاتكاء على نفس السوق الكلامية التي أنبتت كثيرا من الفطر تحايلا على النقاش العمومي الذي فقد أسسه الصحيحة، لن تجدي هذه المرة نفعا، لأنها بكل بساطة قد أصبحت فائتة، ولأن المغاربة قد أدركوا الحقيقة، وأصبحوا ينظرون إلى الحكومة ككتلة سياسية لا تمثلهم وتغاير بالمطلق أبسط انتظاراتهم.