وهبــي يكتب: الأسرة الحاضنة

0 1٬311

عبد اللطيف وهبي

تحدثنا بمقالنا السابق عن الدولة ودورها الذي أصبح محوريا في مواجهة الوباء، و يبدو أن نفس التحول نعيشه مع عودة دور الأسرة بشكل أوسع في ظل مواجهة فيروس “كورونا”، الأمر الذي يجعلنا نقارن بين تصورنا لما كانت عليه الأسرة في الماضي، وبين ما تقوم به حاليا من أدوار، هذه الأسرة التي كانت مستهدفة دائما من طرف ذوي الأفكار الشمولية، و حتى الليبرالية والعولمة، باتهامها بالمحافظة على الأفكار والسلوكات القديمة تارة، و تارة أخرى بعرقلة التطور الرأسمالي والاقتصادي وحتى البشري.

فعرفت الأسرة هجومات نظرية ليس في الاقتصاد والإيديولوجيات فقط، بل حتى في الممارسة السياسية للحكومات المتعاقبة، فكانت محط استهداف عبر التاريخ، تارة باسم العقل، وتارة أخرى باسم التطور المفترض في زمن العولمة باعتبارها حصنا منيعا ضد التطور، وكونها مجال كينونة الفكر المحافظ والتمسك بالتقاليد والأفكار البالية.

وفي ظل النظام الليبرالي الذي أصبح سائدا، همشت الأسرة نهائيا لصالح الفرد، هذا الأخير الذي هو أداة يكمن وجوده في سعيه للربح والنجاح، بينما الأسرة فإنه ينظر إليها كمجرد وسيلة في يد الآلة الاقتصادية ووحدة من وحداته الإنتاجية، دورها الأساسي هو توفير اليد العاملة لسوق الشغل، وتحريك عجلة الاستهلاك لفائدة الاستثمار.

إن الليبرالية والعولمة الجديدة سعت إلى إلغاء قيمة الأسرة لفائدة محورية الفرد، بل عملت على تقليص قيمتها مقابل قيمة الفرد، بشعاراتها التي تمجد دور الفرد في الزعامة، وتجعله عنصر منتج في الاقتصاد، المتحمل ماليا للحياة الاجتماعية. فحولت الأسرة إلى مجرد فضاء للاستراحة من إرهاق العمل، و قوة استهلاكية لمنتوجات صناعية حتى في المناسبات العائلية والدينية، ولم تكن إطلاقا موضوع اهتمام من طرف السياسات الممنهجة، أو من الاختيارات الاقتصادية المعتمدة، بل مجرد مجال غير مفكر فيه، مختزل في ذات للاستهلاك، وهذا الدور في رأي البعض يكفيها، بينما الفرد فهو تلك اليد العاملة المنتجة، أو هو القوة المعترف بها صاحبة الإنتاج.

فعانت الأسرة من وضع متقلب وصعب، تحاول الاندماج في العصر، غير أنها تصطدم بضغط الاقتصاد وغياب سياسات اجتماعية فعالة تمكنها من التطور والتلاحم، لتجد نفسها أمام تعليم عمومي حوله خلاف كبير بين التمجيد والتنقيص، وسوق شغل غير مستقر، وانحدار عنيف في القدرة الشرائية، إضافة إلى غزو ثقافي يفككها من الداخل بوسائل تكنولوجية حديثة أمام افتقارها إلى وسائل فكرية للدفاع عن نفسها، أو برامج وطنية تقيها من الاستلاب الفكري.

وأمام هذه التحديات انبرت أصوات بعض القوى الفكرية الداعية إلى تغيير نمط الأسرة المغربية نحو العولمة والتطور وتجاوز حالة “التخلف” التي تعيشها، مقابل ذلك دعت قوى محافظة إلى ضرورة الحفاظ على النظام الماضوي للأسرة المغربية، باعتباره -من منطقهم المحافظ- هو النمط الطبيعي اللائق بالمغاربة؛ وفي كلتا الحالتين تركت الأسرة لنفسها، تعاني من ضغط وساءل الاتصال الحديثة، ومن ضعف إعلامنا الوطني أمام آلة الإعلام العالمي التي تحمل ممارسات وأفكار جديدة داخل الأسرة المغربية، مرة بتمجيد للمنتوجات العالمية وفكر الاستهلاك، و مرة أخرى بالدعوة إلى الانغلاق في فكر ماضوي محافظ، مما خلخل علاقاتها الداخلية بين أجيال مكوناتها.

ومع هذا الوباء الذي نعيشه الآن، والذي دفع بإعمال الحجر الصحي ومكوث المغاربة في البيوت حفاظا على صحتهم من انتشار الفيروس والحد من أضراره، أصبحت الأسرة موضوع اهتمام من طرف الجميع، إذ البيوت تحولت لمؤوى وأصبحت الأسرة عند كل المغاربة هي ذلك الدرع الوحيد الواقي من الوباء والقادر على الحفاظ على حياة سليمة ودائمة، “الأسرة في داخل البيت والدولة خارج البيت”، فلم يعد السوق يعطي الفرد قيمة في التراتبية كما ادعت العولمة، ولم تعد المقاولة تنتج هوية اجتماعية أو تحمل اقتصادي بتخليها عن الفرد “اليد العاملة”، مقابل عودة دور الأسرة، بل صارت هذه الأخيرة تتمحور حول قيمتها الأساسية مثل التضامن و التكافل والتضحية و التعاون. لذلك فإن هذه الوحدة الاجتماعية التي تعد من بين أهم الركائز الأساسية لاستقرار وتوازن المجتمع المغربي، ستظل بهذا المعنى إحدى المداخل الحيوية لبناء مواطنة نشيطة ومنتجة في مجتمع كمجتمعنا.

إن الأسرة التي اعتبرها البعض تلك الخلية الآتية من ماض سحيق، تحولت الآن إلى ضرورة اجتماعية واقتصادية، جعلتنا نفكر من جديد، والقول أن الفرد أو الإنسان بقوته وجبروته،لم يجد في آخر المطاف من يحتضنه في زمن الوباء سوى الأسرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.