علاقة القاسم الإنتخابي بالديمقراطية
“لا يجوز إطلاق صفة الديمقراطية على ستالين لمجرد أنه كان ثوريا، أو على هتلر لمجرّد أنه فاز في الإنتخابات” ألان تورين
* جمال مكماني
لما تم طرح مسألة طريقة إحتساب القاسم الإنتخابي للنقاش واستئناف التفكير في مراجعتها خلال المحطة الإنتخابية المقبلة، تولد توجه ضاغط تشكَّل من فاعلين سياسيين ومدنيين نبِّهُوا مما قد يشكله هذا الأمر من خطورة على الديمقراطية ببلادنا، مبررين ذلك بِكونه مُصَادرة لحق المصوتين فعلا في إختيار من يمثلهم حينما نجعل من غير المصوتين مشارِكِينَ في ذلك الإختيار.
وبحكم أن هذا التبرير يحمل في طياته العديد من المتناقضات، التي يمكن أن نقول بأن مروجيها قد اختاروا سياسة الهروب إلى الإمام، من أجل إفحام محاوريهم، والقضاء على كل إمكانية لتمحيص الواقع واستنطاقه لجعله قادرا على البوح بالتهديدات الحقيقية للديمقراطية، فلقد كان لزاما علينا – من باب التفاعل الإيجابي الرامي إلى إثراء النقاش العمومي بخصوص هذه المسألة- الرجوع مرة أخرى إلى هذا الموضوع، عبر محاولة تبيان إن كانت هناك علاقة فعلية قد تجمع بين الديمقراطية وطريقة احتساب القاسم الإنتخابي، وهل في المساس بالقاسم الإنتخابي الحالي هناك مساس بالديمقراطية؟ أم أن نقاش القاسم الإنتخابي لا يشكل أي تهديد للديمقراطية ببلادنا؟
قبل الحديث عن مفهوم الديمقراطية ينبغي علينا أن نستأنف النقاش حول “الذهنية الديمقراطية” للفاعلين السياسيين، التي ينبغي أن تكون بوصلتها هي التفكير في كيفية التوفيق والجمع بين القواعد المؤسساتية المشتركة وبين تنوع المصالح والثقافات. أي الإبتعاد قدر الإمكان عن فكرة التعارض بين سلطة الأغلبية وحقوق الأقلية، فالديمقراطية لا يمكنها أن تتحقق خارج الإحترام الشديد لسلطة الأغلبية ولحقوق الأقلية. وهذه الفكرة تعتبر من بين الأعراف الأساسية للديمقراطية، فالذهنية الديمقراطية تسلِّم بأن أكثرية اليوم قد تتحول إلى أقلية غدا، كما أن أقلية اليوم تتقبَّل قوانين قد تعاكس مصالحها لكن ذلك لا يمنعها من ممارسة حقوقها الأساسية. إن الذهنية الديمقراطية ترتكز بالأساس على استيعاب ذلك الإرتباط الوثيق والمتبادل ما بين الوحدة والتنوع، وتنتعش داخل النقاش الذي يدور حول ترسيم الحدود الفاصلة بينهما رغم دورانهما المستمر، وحول إنتقاء أفضل الوسائل التي تؤدي إلى تعزيز إرتباطهما. وبالتالي فالديمقراطية لا تكمن في سن القوانين والنظم التي تؤمن بها الأكثرية، بل على العكس من ذلك فهي إجتهاد من أجل سن قوانين ونظم تراعى فيها حقوق الأقلية، وهنا المسألة غير مرتبطة، بمن شارك أو بمن لم يشارك في عملية التصويت، بل بمساءلة المسؤول عن السياسات العمومية التي وسعت من دائرة عدم المشاركة السياسية. إن الديمقراطية لا تكون مهددة بسبب تغيير القاسم الإنتخابي، بل تكون كذلك حينما يتم تعزيز تنامي التفاوتات والفروقات الإجتماعية، عبر سن سياسات تجعل من الطبقة المتوسطة تنسحق وتلتحق بالفئات الهشة. سوف تكون الديمقراطية بعيدة المنال لما تكون الذهنية الديمقراطية عاجزة عن القيام بالمهام الإيجابية الرامية إلى تنظيم الحياة المجتمعية، ومن بين هذه المهام قيادة نقاش عمومي حقيقي اتجاه القضايا الحقيقية بدل القضايا المزيفة مثل الفكرة القائلة بأن التفكير في تغيير القاسم الإنتخابي هو تهديد للديمقراطية.
إن الفهم البسيط للديمقراطية واختزالها فقط في العملية التقنية لصناديق الإقتراع قد يقود بسرعة جنونية إلى الأوليغارشية، عن طريق هيمنة من يشارك على القرار السياسي، بدون أدنى إعتبار لمن ليست لهم سلطة في الحياة المجتمعية، وهنا تتولد كل أشكال الهيمنة المجتمعية نتيجة التفرد بممارسة السلطة السياسية. إن الديمقراطية بلغة آلان تورين تولد بالمناداة بمباديء معنوية من قبيل الحرية والمساواة باسم الأكثرية التي لا سلطة لها، وضد المصالح المسيطرة. فالديمقراطية ينبغي أن تؤسس لمباديء الإفلات من قبضة التفاوتات المميتة، فلا يمكن إختزالها إطلاقا في لحظة انتخابية تحصل على رأس كل خمس سنوات بل تتعداها بكل تأكيد إلى أعمق من ذلك، إنها سعي دائم اتجاه تحقيق المساواة التي تهدف إلى مكافحة كل التفاوتات والإختلالات التي تحول دون تحقيق حقوق الأفراد وممارسة هذه الحقوق. إن إحترام الفترات المنتظمة للاختيار الحر للتمثيلية هو شرط أساسي للديمقراطية لكنه ليس الوحيد، بل هناك أيضا شرط إحترام الحقوق الأساسية للمواطنين، فبدون ذلك سوف تتحول الديمقراطية إلى وسيلة لإنتقال السلطة بدون إراقة الدماء كما ذهب إلى ذلك كارل بوبر. إننا اليوم نحتاج إلى محاصرة التهديد الحقيقي للديمقراطية، ليس من باب الخوف من التغيير التقني لبعض الضوابط التنظيمية لعملية إختيار التمثيلية، ولا باستهلاك المبررات التي يسوقها بعض الطامحين إلى السلطة، بل من خلال مساءلة المسافة الفاصلة بين المواطنين وحقوقهم الأساسية، لأن ذلك هو السبيل إلى تحقيق فكرة المواطنة.