لا تنمية بدون اقتصاد ثقافي

0 1٬535

يعتبر مفهوم التنمية من المفاهيم الأكثر تداولا منذ منصف القرن الماضي.وقد ارتبط هذا التداول، في مجمله ، بالتصنيفات التي تم اعتمادها للتمييز بين ” العالم المتقدم” و ” العالم المتخلف ” أو ما سمي لفترة طويلة بدول ” العالم الثالث”، أو ” الدول النامية” ، أو ” السائرة في طريق النمو”، أو ب” دول الهامش أو المحيط..”،حيث ظلت إشكالات التنمية مرتبطة بنظريات اللحاق ،والتي كانت تسائل إمكانية لحاق البلدان الفقيرة بركب البلدان المتقدمة .وقد تمحورت أغلب نظريات التنمية حول النماذج الاقتصادية القادرة على تحقيق النمو.وقد عرفت هذه النظريات تطورات متسارعة بفعل التحولات الحاصلة في العلاقات الدولية،وفي علاقات الشمال بالجنوب، وفي المنظومات الاقتصادية نفسها.ليستقر النقاش اليوم ، بعد تمدد المشروع الليبرالي العابر للقارات،وفرض هيمنة اقتصاد السوق ، لتبني مفاهيم جديدة تضع “التنمية المستدامة” في صلب الرهانات الجديدة المرتبطة بمجابهة معضلات الفقر، والهشاشة، والتفاوتات الاجتماعية.
.
في ظل هذه المستجدات،ستنفتح أطروحات التنمية على فرضيات جديدة تلتقي في الإقرار بأن النمو لا يمكن أن يتحقق فقط بالمعادلات الماكرو -اقتصادية،وبأن الدولة لا يمكن أن تكون لوحدها الفاعل الوحيد في التنمية، وبأنه ينبغي إشراك الناس في مشاريع التنمية.وقد أصبح مفهوم ” النموذج” التنموي من المفاهيم الجديدة التي تصرح ضمنيا بأن مشاريع التنمية، ونسب النمو، ومؤشرات التطور ليست وصفات جاهزة قابلة للنمذجة أو الاستيراد أو التصدير.وأصبح التسليم بأن التنمية لا يمكن أن تتحقق فقط بالمعايير المادية، بل أيضا بإمكانيات تطوير وحماية كل المكونات الثقافية المرتبطة بالإنسان، بمستوياتها الهوياتية،والاجتماعية،والأنتربولوجية،والاقتصادية، والوجدانية،والقيمية…
وبالنظر لهذه المكونات، في أبعادها الدينامية والتاريخية،فإن الثقافة أصبحت، من منظور الاقتصاديات الجديدة، قطاعا قابلا للمساهمة في إنتاج فائض القيمة من خلال العديد من الأنشطة التسويقية القادرة على الإسهام ،المباشر أو غير المباشر، في النمو الاقتصادي والاجتماعي.
ولأن الثقافة، بمختلف تعبيراتها، رافعة أساسية لدعم التماسك الاجتماعي،ومبادىء المواطنة النشيطة، وقيم التسامح والسلم المدني،وأداة حيوية لتحقيق التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات،وللحد من التوترات الاجتماعية والاثنية، فإنها تساهم بشكل غير مباشر في التنمية بأبعادها المختلفة.
وقد أصبح مفهوم “الاقتصاد الثقافي”متداولا بقوة مع بداية الألفية الجديدة،حيث أصبح القطاع الثقافي يشكل موردا حقيقيا لتطوير الأنشطة الإنتاجية في الأسواق العالمية. وعلى الرغم من التخوفات المرتبطة بتنميط التعبيرات الثقافية ، وتسليعها، وإخضاعها ، هي الأخرى ، لمنطق السوق، فإن الرهان على استثمار التنوع الكوني في التعبيرات الثقافية، والحفاظ على أبعادها الحضارية والتاريخية يشكل خزانا حقيقيا للتنمية الاقتصادية.ولعل تطور الأرقام المرتبطة بالسياحة الثقافية، من الشمال إلى الجنوب، بمعدل 10 بالمائة خلال العشرية الأخيرة يِؤكد هذا المنحى.وعلى الرغم من التخوف القائم من ” تسليع” الثقافة، أو بعض أنماط التعبيرات الثقافية، فإن ” هيكلة” الأنشطة الثقافية ضمن برامج اقتصادية محددة لن تعمل إلا على تحصين التراث الثقافي المحلي القادر على ترويج مختلف القيم والتعبيرات في إطار تظاهرات ثقافية ستساهم في ضمان ” البعد المادي” للتعدد الثقافي.
لقد أصبحت التنمية الثقافية جزءا من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الإسهام المباشر وغير المباشر للقطاعات والأنشطة الثقافية في الحركية الاقتصادية،وفي الناتج المحلي والوطني لما أصبح يعرف ب ” الصناعات الإبداعية” التي تدمج مختلف الفاعلين والمتدخلين في الدورة الاقتصادية( مبدعون- فنانون-مقاولات ذاتية-مؤسسات ثقافية- هيئات القطاع العام-مرافق ادارية ومالية- القطاع الخاص- تقنيون- مكونون- متاحف- المكتبات….).
وتشير العديد من الدراسات والأرقام بأن مساهمات ” الاقتصاد الثقافي” في الناتج الداخلي الخام في العديد من الدول يتجاوز مداخيل العديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى من قبيل الصناعات الغذائية، وصناعة النسيج- والعقار…ناهيك عن فرص الشغل التي تحققها القطاعات الثقافية المختلفة.
والمقصود بالاقتصاد الثقافي هو كل الديناميات المرتبطة بالتعبيرات والأنشطة الثقافية، المادية وغير المادية،المساهمة في السوق الاقتصادية عبر استراتيجيات إنتاج، وتوزيع، وتعميم الخدمات الثقافية المفتوحة للعموم.وهذه الخدمات التسويقية، بأبعادها التجارية، تساهم في القيمة المضافة بخلق فرص التشغيل، وتصدير المنتوج الثقافي، وتنويع الخدمات الاقتصادية، وتنمية المقاولات الصغرى والمتوسطة..وتضم هذه الأنشطة قطاعات متنوعة، ومتداخة الاختصاصات، مثل( الموسيقى- السينما-التلفزيون- الراديو-السمعي البصري-الكتاب والنشر-الصحافة-المكتبات- الاركيولوجيا- المنتجعات- حدائق الحيوان-المحميات-الفنون الاستعراضية- التراث الشعبي-المسرح- الرقص-الفتوغرافيا-التشكيل- النحت-المعارض-المهرجانات-تكنولوجيا الاتصال-الصناعات التقليدية الفنية والإنتاجية-الهندسة المعمارية…).
غير أن وضعية القطاعات الثقافية في العديد من البلدان النامية، ومن ضمنها بلادنا، تعرف هشاشة ملحوظة على الرغم من توفر المواد الإبداعية والأنشطة الثقافية القادرة على تشكيل البنيات الهيكلية لصناعة ثقافية مستدامة.مما يدفع المبدعين لـتأدية العديد من الوظائف بشكل فردي ، وموسمي في غياب مقاولات مهيكلة،واحترافية قادرة على إنتاج، ودعم، وتسويق الخدمات،والتظاهرات الثقافية.ويعاني مختلف الفاعلين الثقافيين من اكراهات الشروط العامة المرتبطة بانعدام الاستراتيجيات التنموية ، وضعف الإمكانات المادية،والتقنية والبشرية،ومن غياب قنوات تسويق الخدمات الثقافية.
وللنهوض بالتنمية الثقافية، كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يستوجب تحقيق سياسات عمومية التقائية تدمج كل الأنشطة و القطاعات الثقافية من منظور استراتيجي عرضاني (السياحة الثقافية-البنيات التحتية-التربية والتعليم والتكوين-العمل الجمعوي- التكوين المستمر-المتدخلون المهنيون-وسائل الاتصال السمعي البصري..)،بغية تطوير نظام مؤسساتي للصناعة الثقافية من خلال تقوية المؤهلات المؤسساتية العمومية، وشبه العمومية، والقطاعات الخاصة المشتغلة في المجالات الثقافية المختلفة.وتحفيز المقاولات القادرة على إنتاج، وتوزيع، وتسويق المنتوج الثقافي المحلي(المادي واللامادي)،وفتح إمكانات الولوج للصناعات الثقافية بتقوية وتطوير الاستثمارات الوطنية، والدولية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.