الأزمي عن مواجهة الأزمة: لا تقشف ولا إفراط بل تضامن ومسؤولية واعتدال

0 1٬070

عمم السيد ادريس الأزمي الادريسي، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، مقالا يتفاعل مضمونه مع ما تضمنه مقال سابق للسيد عزيز اخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار تحدث فيه عن ضرورة دعم الدولة للفاعلين الاقتصاديين، في مرحلة الخروج من هذه الأزمة، وذلك حتى يتمكنوا من تخطي المرحلة ويستعيدوا عافيتهم، مؤكدا على أن هؤلاء الفاعلين سيحتاجون إلى مواكبة ودعم لا تشوبه شائبة، وهي المقاربة التي يرى فيها السيد الأزمي إشكالا خصوصا في الشق المتعلق بالتطبيع مع المديونية وتجاوز “المعتقدات” المتعلقة بالتحكم التام في عجز الموازنة العمومية.

وحرصا منا في إدارة البوابة الرسمية لحزب الأصالة والمعاصرة على تتبع هذا النقاش العمومي الصحي والمهم في إغناء الأفكار وتطويرها، نعيد نشر مقالة رأي السيد ادريس الأزمي الادريسي كما وردت في الموقع الرسمي لحزب العدالة والتنمية.

ادريس الأزمي الادريسي

في مُقترحه لتجاوز الأزمة الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب نشر السيد عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، في عدد 14 أبريل 2020 ليومية “أوجوردوي لو ماروك” مقالا تحت عنوان “في مواجهة الأزمة، يجب دعم العرض والطلب والابتعاد عن التقشف” يدافع فيه، عن صواب، على ضرورة دعم الدولة للفاعلين الاقتصاديين، في مرحلة الخروج من هذه الأزمة، وذلك حتى يتمكنوا من تخطي المرحلة ويستعيدوا عافيتهم، مؤكدا على أن هؤلاء الفاعلين سيحتاجون إلى مواكبة ودعم لا تشوبه شائبة.

كما يقترح السيد أخنوش أنه يجب أن يتوقف ذلك الخطاب، الذي يولي الأسبقية لمداخيل الدولة ويضع على كف المعادلة الاختيار بين إنقاذ الدولة أو المقاولات. فبالنسبة له، الترويج لسياسة تقشفية يعتبر خطأً جسيما.

ويؤكد أنه من أجل تنظيم مرحلة الخروج من الأزمة لن يكون أمام الدولة من خيار سوى الرفع من مستوى المديونية وتحمل المخاطر، ومواكبة الفاعلين حتى يتمكنوا من تخطي المرحلة. وأن العالم الجديد بعد كوفيد-19 سيتميز، حتما، بانهيار مجموعة من المعتقدات المتعلقة بالتحكم التام في عجز الموازنة العمومية، بفعل البراغماتية التي يفرضها الوضع السائد. وأن الاقتصادات الكبرى قد اختارت السماح لنفسها بتجاوزات كبيرة للمستويات المعتادة من عجز ميزانياتها.

وحسب رأيه، فإن الوقت الراهن ليس مناسبا للتقشف: إذ أن مستوى الدين في لحظة ما لا يهم، بقدر ما يهم منحى الدين على المدى المتوسط والبعيد. كما أن لجوء الدولة إلى الاقتراض من أجل التغلب على أزمة خارجية، لا مفر من تداعياتها، أمر جد طبيعي.

إن ما دفعني بالخصوص للرد على هذا الطرح هو الخطر الكبير الذي يمثله في نظري هذا الخيار. إن حث الدولة على دعم نسيجنا الاقتصادي، وخاصة القطاعات الأكثر تأثراً بهذه الأزمة، حتى تستعيد عافيتها، لا يمكن إلا تشجيعه والتصفيق له، غير أن الإشكال يبقى في المقاربة التي يعتمدها صاحب المقال، ولا سيما التطبيع مع المديونية وتجاوز ما أسماه السيد أخنوش مجموعة من “المعتقدات” المتعلقة بالتحكم التام في عجز الموازنة العمومية.

وفي البداية سيكون من المفيد التذكير بأن الدستور يحدد قواعد واضحة فيما يتعلق بالحفاظ على التوازنات المالية للدولة وفي مجال إحداث تكاليف عمومية جديدة، حيث ينص في فصله 77 على أنه : “يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة. وللحكومة أن ترفض، بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود.”

كما أنه من المفيد التذكير بأن المادة 20 من القانون التنظيمي لقانون المالية تنص على أنه : “لأجل الحفاظ على توازن مالية الدولة المنصوص عليه في الفصل 77 من الدستور، لا يمكن أن تتجاوز حصيلة الاقتراضات مجموع نفقات الاستثمار وسداد أصول الدين برسم السنة المالية. ويمكن للحكومة القيام بالعمليات الضرورية لتغطية حاجيات الخزينة.”

وبغض النظر عن المقتضيات الدستورية والتشريعية التي تضع مبادئ وقواعد واضحة وآمرة تروم الحفاظ على التوازنات المالية للدولة، فإن تصوير خيار اللجوء إلى توسيع عجز الميزانية والمديونية العمومية، كأمر جد طبيعي وكخيار عادي، يبقى في اعتقادي خطيرا جدا لاعتبارات شتى.

أولاً، لأن هذا الخيار يتعارض مع الجهود المبذولة والنتائج التي سجلتها بلادنا في مجال استعادة التوازنات الكبرى لاقتصادنا الوطني، كما أن من شأنه تقويض كل هذا الجهود في لحظة وجيزة، وهو ما لم يتم تحقيقه إلا بفضل الإصلاحات الشجاعة سياسياً والتي أنجزت في السنوات الأخيرة في مجال تطهير المالية العمومية واستعادة عافيتها. وحتى لا ننسى، فهذه التوازنات الكبرى، والمهمة جدا، هي ثمرة عمل جبار تم القيام به بين عامي 2012 و 2016 لتدارك الأضرار التي لحقت بالمالية العامة. وحتى لا ننسى، فإنه وسواء كان انزلاق عجز الميزانية والدين العمومي خيارا إراديا أو واقعا مفروضا، فإنه سيتعين استعادة التوازنات الكبرى، عاجلاً أو آجلاً، وبتكلفة كبيرة تكون دائما مؤلمة للمواطنين وللشركات دون أن ننسى أثرها السلبي على النمو والتشغيل. إن الأمر لا يتعلق بمذهب أو بمعتقد، بل هو ببساطة مسألة إدارة سليمة وحكامة جيدة ومسؤولة للمالية العمومية في خدمة النمو والتشغيل.

كما لا ينبغي أن ننسى أننا قطعنا أشواطا طويلة وشاقة من أجل استعادة هذه التوازنات الكبرى. فقد بلغ عجز الميزانية 7.2٪ من الناتج الداخلي الخام سنة 2012. وبسبب تفاقم العجز، تجاوز دين الخزينة 60٪ من الناتج المحلي الخام، بعد أن كان في حدود 45٪ عامي 2008 و 2009. وقد تم، بفضل الجهود المبذولة، احتواء عجز الميزانية في 3٪ من الناتج الداخلي الخام ودين الخزينة في أقل من 65٪ من الناتج الداخلي الخام. بالإضافة إلى ضبط عجز الحساب الجاري لميزان الأداءات ليسمح بالمحافظة على احتياطي المغرب من العملة الصعبة في مستوى يتجاوز خمسة أشهر من واردات السلع والخدمات، بعدما وصل هذا العجز إلى الذروة بنسبة 9.5 ٪ من الناتج الداخلي الخام في 2012.

إن هذه التوازنات هي التي مكنت قطاعات مثل الصحة والتعليم والاستثمار العمومي بشكل عام من الوصول إلى مستويات غير مسبوقة، باعتمادات تتجاوز 190 مليار درهم في السنة. وهي التي مكنت بلادنا من مواصلة جهودها من حيث الاستثمار في البنيات التحتية الأساسية، وإنجاز استراتيجية غير مسبوقة واستباقية في مجال الطاقات المتجددة، وتكثيف وتوسيع الاستفادة من برامج اجتماعية واسعة النطاق مثل منح الطلبة، وتيسير، وراميد، والمساعدة المباشرة للأرامل وغيرها كثير.

ثانيا، إن هذا الخيار سيؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه يخاطر بتقويض التقدم المحرز والنتائج المسجلة، والتي مكنت بلادنا من تبوأ مكانة متميزة وجاذبية أكيدة. إن التقدم الكبير الذي حققه المغرب خلال السنوات الأخيرة في تصنيف ممارسة الأعمال، ليتبوأ الرتبة 53 في 2020 (مقابل 60 في 2019 و 69 في 2018 و 68 في 2017 و 75 في 2016 و 94 في 2012 و 128 في 2010)، مرده ليس فقط للإصلاحات الجريئة التي قام بها المغرب في مجال مناخ الأعمال. بل كذلك، وبالخصوص، إلى الإدارة الماكرواقتصادية المسؤولة والصارمة، وعجز الميزانية ومستوى المديونية المعتدلين والمستدامين.

ولقد أعطى هذا التقدم ثماره، خاصة على مستوى التطور المستمر، من عام إلى آخر، لصافي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي بلغت 32.8 مليار درهم في 2018، مقابل 25.69 في 2017، و 21.15 في عام 2016 ، و 31.8 في عام 2015 ، و 29.9 في عام 2014 ، و 27.7 في عام 2013 ، و 23.5 في عام 2012 ، و 20.8 في عام 2011 و 13.2 في عام 2010. إن هذا التطور الرائع الذي نحسد عليه ليس إلا نتيجة هذه السمعة الجيدة والثقة المستدامة في بلدنا بفضل استقرارها السياسي والاجتماعي وكذا الماكرواقتصادي.

ثم إن تأكيد وكالة التنقيط الدولية “ستاندر أند بورز” S&P، في 3 أبريل 2020، لتصنيف المغرب في درجة الاستثمار مع نظرة مستقبلية مستقرة، لهو، حسب نفس الوكالة، نتيجة المستوى المعتدل للمديونية والعجز المتحكم فيهما والاستقرار السياسي والاجتماعي ونتيجة تنفيذ العديد من الإصلاحات والتدابير التي تهدف، من بين أمور أخرى، إلى الحد من البطالة والتفاوتات.

ثم إن سحب ما يقارب من 3 مليار دولار، في 7 أبريل 2020 ، ودون صعوبة في هذه الفترة المطبوعة بالصدمات الشديدة بسبب Covid-19، والذي تم في إطار الاتفاق المتعلق بخط الوقاية والسيولة المبرم مع صندوق النقد الدولي منذ سنة 2012، وتم تجديده للمرة الثالثة في دجنبر 2018، هو نتيجة نفس التوازنات ونفس الإصلاحات.

ثالثا، إن الخيار المروج له لا يتلاءم مع الواقع المغربي. إن الدفع بكون الاقتصادات الكبرى قد أقرت تجاوزات كبيرة، مقارنة بالمستويات المعتادة في نسبة عجز ميزانيتها، لترجيح خيار لجوء المغرب لتعميق المديونية وعجز الميزانية كحل لمواجه الأزمة، يتجاهل حقيقة أن وضعية المغرب تختلف مع هذه الدول اختلافًا جوهريًا، وخاصة مع المجموعة الأوروبية. وهذا ليس فقط بسبب حجم وطبيعة وعمق النسيج الاقتصادي وعمقه، ولكن بشكل خاص نتيجة اختلاف الآليات التي لدى تلك الدول، والتي تسمح لها بالحصول على ميزانيات ضخمة من أرصدة الاحتياط والدعم التي تتوفر عليها، ناهيك عن قدرة بنوكها المركزية على إطلاق برامج ضخمة لشراء ديون الدول وتزويدها بالسيولة الازمة، بل وحتى القدرة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي على تعاضد المخاطر وإصدار دين مشترك.

وفي الختام، صحيح أن جلالة الملك حفظه الله، كان صاحب رؤية رشيدة وبادر منذ البداية، وفق رؤية استباقية حكيمة، بإعطاء تعليماته السامية بإنشاء الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا “كوفيد-19”، بهدف تغطية تكاليف تأهيل المنظومة الطبية، ودعم الاقتصاد الوطني لمواجهة الصدمات الناتجة عن هذا الوباء، والحفاظ على مناصب الشغل وتخفيف الآثار الاجتماعية للوباء. وقد أعطى جلالته حفظه الله المثل بمساهمة مالية كريمة في الصندوق بلغت 2 مليار درهم.

ولقد رسم إنشاء هذا الصندوق الطريق التي ينبغي سلوكها، وهي ضرورة مواكبة الأسر والشركات، في ظرفية الأزمة هذه، ليس باللجوء إلى توسيع العجز العمومي وإغراق البلاد في المديونية، بل عن طريق اللجوء إلى التضامن الوطني. وهذا ما تقترحه المادة 40 من الدستور في مواجهة مثل هذه الظروف، حيث تنص على أنه : “على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد.”

لقد أشار السيد أخنوش نفسه، عن حق، إلى أنه لحسن الحظ، يتمتع المغرب بمقومات جيدة ومالية عمومية متينة، وذلك بفضل سنوات من التدبير العقلاني والاستباقي، وهذا يتيح لنا مجالا لتعبئة المزيد من الموارد، إن لزم الأمر.

لكن إن استغلال هذه المقومات الجيدة وهذا المجال المتوفر، لا يجب أن يكون لتعميق المديونية أو توسيع العجز، والتضحية بجودة ماليتنا العمومية ورهن شروط الانتعاش الحقيقي ومستقبل أجيالنا، ولكن يتم بمواصلة هذا التدبير العقلاني والاستباقي وسهرنا جميعا على الحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى لبلادنا، وإدارة مواردنا بشكل جيد وجعل الفريق الحكومي بأكمله يعمل بتضامن وبذكاء جماعي. إذ لا ينبغي العمل وفق منطق “كل واحد يدافع عن قطاعه”، بل

يتعين تحديد أولويات هذه الظرفية والقيام بعمليات إعادة التوزيع اللازمة لفائدة القطاعات الأكثر تأثرًا وأولوية، وإجراء مراجعة عامة للنفقات لإلغاء أو تأجيل تلك التي لا تكتسي طابعا استعجاليا أو وجيها.

كما ينبغي أن نستحضر دوما أن ديون اليوم، التي نسعى من خلالها لدعم المقاولة، ستؤول إلى ضرائب و / أو تضخم غدًا، وهو ما ستدفع ثمنه غاليًا الأسر والشركات ويرهن نمو بلادنا مستقبلا.

وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: “وَالذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يُقْتِرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماٗ”، سورة الفرقان الآية 67.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.