في الحاجة إلى التنوير
لطالما كان المغرب، عبر تاريخه الممتد، أرضًا للتلاقح الثقافي والفكري، وموطنًا لقيم التسامح والانفتاح، حيث أن أي فكر دخيل أخضعه المغاربة لقواعدهم وقوالبهم الإنسانية والعرفية، بما في ذلك الديانات السماوية، والتي كان للتدين المغربي صبغة خاصة يمكن اختصارها بـ “تامغربيت”. فمنذ القدم، عرف المغرب بتعدد روافده الدينية والثقافية، حيث تعايشت فيه مختلف الديانات والطوائف في سلام، وتطورت داخله مدارس فقهية وفكرية متميزة منذ الديانات القديمة وثورة دوناتوس والمذهب الأريوسي وصولا للطرق الإسلامية، فالتدين المغربي كان دائما ما يمزج بين الأصالة والمعاصرة والمزاوجة بين الدين والعادات والتقاليد والأعراف المحلية، تدين المغاربة يتميز بالتركيز على الجانب الروحي والأخلاقي، مما يجعله أكثر انفتاحًا على الآخر والأقرب للتصوف، تدين يتجسد في المقولة الشعبية ” فاضمة تسن ربي ربي يسن فاضمة “. غير أن هذا الإرث الحضاري الثمين يواجه اليوم تحديات جمة، تستدعي وقفة تأمل عميقة ومسارًا إصلاحيًا جريئًا، يضع التنوير والحداثة في صلب رؤيته المستقبلية
خطر الأصولية
في الآونة الأخيرة، بدأت أصوات متطرفة تعلو في بعض الأوساط، مستغلةً قضايا حساسة كالقضية الفلسطينية وتمكين المرأة لتجييش الجماهير واستقطاب العامة. هذه الأصوات، التي تتستر بغطاء الدين والمدعومة من تنظيمات وقنوات أجنبية، تروج لخطاب الكراهية والعنف، وتعمل على تقويض قيم التسامح والتعايش التي لطالما ميزت المجتمع المغربي. إن تجاهل هذه الظاهرة الخطيرة والتغاضي عنها قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتهديد استقرار البلاد، وتقويض جهود التنمية والتحديث التي يبذلها المغرب.
إن مستقبل المغرب، في تقديري، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن مشروع تنويري شامل، يهدف إلى تحرير العقول من قيود الجهل والتعصب، وتكريس قيم العقلانية والنقد البناء. فالتنوير ليس مجرد شعار براق، بل هو عملية تحول مجتمعي عميقة، تتطلب إصلاحًا جذريًا للمنظومة التعليمية، وتطويرًا للخطاب الديني، وتعزيزًا لدور الثقافة والإعلام في نشر الوعي والمعرفة، وجعل التعليم كأولوية استراتيجية في نقل هاته القيم للناشئة. فمناهجنا الدراسية، للأسف، لا تزال بعيدة عن مواكبة متطلبات العصر، وتفتقر إلى أدوات التحليل النقدي والتفكير الإبداعي. كما أن مؤسساتنا التعليمية في غياب مراقبة صارمة تؤثر فيها الأنا والذاتية للمدرسين وتمرير قناعاتهم الشخصية والإيديولوجية ولو كانت تعاكس التوجهات الرسمية للدولة، مما يؤثر سلبًا على جودة التعليم ومخرجاته. هذا الواقع يحتاج إلى إعادة نظر جذرية إذا كنا نطمح لبناء جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
الاستثمار في التعليم
إننا بحاجة إلى ثورة تعليمية حقيقية، تهدف إلى بناء جيل جديد من الشباب، مسلح بالمعرفة والمهارات والقيم الإنسانية النبيلة. جيل قادر على مواجهة حملات الاستقطاب والتطرف، ويساهم بفعالية في بناء مجتمع ديمقراطي مزدهر. وهذا يتطلب ثورة جذرية في هيكل التعليم، ليس فقط في تغيير المناهج، بل أيضًا في تطوير أساليب التدريس وتنمية قدرات المعلمين وتثقيفهم ومراقبة خطابهم.
يمكننا استلهام تجربة دول الخليج بشكل عام، والإمارات المتحدة بشكل خاص، التي شهدت تحولات جذرية في هذا المجال، حيث استثمرت بشكل مكثف في تطوير نظامها التعليمي، وعملت على تحديث المناهج الدراسية، وتوفير أحدث التقنيات التعليمية، وتأهيل الكوادر التعليمية. نتيجة لذلك، شهد المجتمع الإماراتي تحولًا كبيرًا، حيث أصبح أكثر انفتاحًا وتسامحًا ومنارة آمنة للتعايش والاستقرار ووجهة عالمية للعيش والعمل، حيث يعيش على أرضها أكثر من 200 جنسية مختلفة، وقادرًا على مواكبة التغيرات العالمية.
السعودية أيضا، من خلال رؤيتها 2030، ركزت على تحديث قطاع التعليم، واستثمار موارد ضخمة في تطوير المناهج وتحفيز البحث العلمي والنقدي والتحديث،
مما يؤكد أن الاستثمار في التعليم هو مفتاح التنمية والتقدم.
التدين المغربي
التدين المغربي، يتسم بالتقوى والتصوف، وقد كان دائمًا بعيدًا عن مظاهر التشدد والتطرف. المغاربة، الذين يتبعون المذهب المالكي، حافظوا على مرونة فقهية سمحت لهم بالتكيف مع الظروف المحلية، مما مكنهم من تعزيز التسامح مع مختلف الأديان والمعتقدات. التصوف المغربي يعكس تقاليد التسامح والمحبة، حيث يُعتبر منبعًا أساسيًا للتعايش السلمي داخل المجتمع. تاريخ المغرب يعكس تكاملًا ثقافيًا بين المسلمين واليهود واحترام المغاربة لحرية المعتقد والتنوع الديني. وحتى أن المزارات والأولياء الذين عرف بهم المغرب لم يفرقوا في قدسيتهم بين المسلمين واليهود، فتجد مسلما يقصد وليا يهوديا والعكس صحيح، وهذا يدل أن التدين المغربي يخاطب نقاء القلوب لا تمظهرات الدين.
ولا يمكننا إغفال الدور البارز لمؤسسة “أمير المؤمنين”، فقد سبق للملك أن صرح في خطاب له بأنه أمير لجميع المؤمنين، وليس فقط للمسلمين، مما يعكس حقيقة التسامح والانفتاح التي يتميز بها المغرب، فهذه المؤسسة تلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على التوازن بين الدين والدولة، وفي تعزيز قيم الاعتدال والتسامح الديني في المجتمع.
نعم نحن نحتاج إلى خطاب ديني مستنير يتماشى مع مستجدات العصر ويعزز قيم التسامح والاختلاف، ويواجه الأفكار المتطرفة ويصحح المفاهيم الخاطئة. يمكن للأئمة والمفكرين الدينيين أن يلعبوا دورًا في نشر الاعتدال وتعزيز التعايش السلمي.
ويمكننا أن نعطي مثالا لصراع التدين المغربي والإيديولوجيات السلفية المتطرفة الدخيلة، دفاع الخطيب لحسن السكنفل في أحد خطب الجمعة بتامسنا عن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، ردًا على الجدل الذي أثاره التكفيريين السلفيين، والذين يعتبرون أن الاحتفالات بهذه المناسبة لا تجوز للمسلمين. ففي خطبته، أكد السكنفل على أن العادات التي لا تخالف عقيدة الإسلام هي مباحة، مشيرًا إلى أن هذه التقاليد كانت موجودة قبل دخول الإسلام، وما دامت لا تتعارض مع الشريعة أو الأخلاق، فهي مقبولة.
الثقافة والإعلام
لا يمكن للتنوير أن يكتمل دون دور فاعل للثقافة والإعلام. فالثقافة هي مرآة المجتمع، والإعلام هو صوته. نحن بحاجة إلى فضاء ثقافي وإعلامي حر ومسؤول، يشجع على الإبداع والنقد البناء، ويحترم التعبير والتعايش ويعكس قيم تامغرابيت.
إننا بحاجة إلى سينما ومسرح وأدب وفن يعكسون واقعنا بكل تجلياته، ويطرحون قضايا مجتمعنا بكل جرأة ومسؤولية. يجب أن يكون الإعلام منبرا للخطاب المنفتح والمتسامح، وينشر قيم التعايش والاعتدال، كما أن اختفاء الموسيقى والفنون من المناهج الدراسية، وغيابها عن القاعات الثقافية، يشكل مؤشرًا خطيرًا على تراجع الدور الثقافي في تشكيل وعي المجتمع. هذا التراجع يعكس أيضًا تهميشًا للمجالات التي تسهم في التعبير عن الهوية الثقافية وتحفيز التفكير النقدي، مما يضعف قدرتنا على التحاور مع مختلف الاتجاهات الفكرية والثقافية.
الحداثة المغربية
يحاول الأصوليون الادعاء أن الحداثة تقليد أعمى للغرب وهذا يبين جهلهم بحقيقة أن الحداثة المغربية تمتد بجذورها عميقًا في الهوية الثقافية والتاريخية للمغاربة. فمنذ العصور القديمة، كان المغاربة روادًا في تحديث المجتمع وفي التفاعل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، فالمغاربة لم تستوعبهم أي إيديولوجية خارجية سواء ثقافية أو دينية، بل كانوا دائما مبتكرين في إيجاد حلول متوازنة تتماشى مع هويتهم الخاصة، وفي نفس الوقت منفتحين على الآخر ويستوعبون الأفكار المختلفة.
فبالرجوع للأعراف الأمازيغية نكتشف جوهر الحداثة المغربية. ففي هذه الثقافة، كان للمرأة مكانة كبيرة وكان هناك تسامح وانفتاح حقيقي على جميع الأطياف، وكانت تميز قيم التعايش وتنبذ التعصب والتطرف. وكانت حصنا ضد التفسيرات المتشددة للدين. وكان المغاربة يتبعون فهمًا مرنًا لدينهم يعزز التسامح مع الآخر ويشجع على التعايش السلمي، وقد كان الفقهاء المتشددون كثيرًا ما يوجهون انتقادات حادة للمغاربة لتمسكهم بنهج وسطى، ولعدم تبنيهم للأحكام الصارمة التي تروج لها بعض المدارس السلفية. ولكن هذا الموقف يعكس حقيقة هامة: المغاربة كانوا دائمًا متمسكين بتقديم قيم التسامح والاعتدال على التشدد في الدين.
إن تامغرابيت، هي النموذج الذي يجسد هذا التفاعل بين الحداثة وهويتنا الوطنية. تامغرابيت هي قدرة المغاربة على التعايش مع مختلف الثقافات والأديان، وأيضًا هي فلسفة تعزز الانفتاح على العالم مع الحفاظ على الخصوصية الوطنية والدينية التي هي جزء من تكويننا الثقافي والإنساني الذي سبق العديد من التحولات الفكرية والسياسية في العالم.
التنوير كركيزة للتنمية
إن التنوير والحداثة، بالنسبة للمغرب هما ضرورة للبقاء على المسار الصحيح في مواجهة التحديات المعاصرة. ففي عصر العولمة، أصبحت الدول التي تركز على التنوير والتعليم والتحديث هي التي تتمكن من النجاح في المجالات الاقتصادية، ويُعتبر المغرب أحد الدول التي تعتمد في اقتصادها بشكل كبير على قطاع الخدمات، بما في ذلك السياحة والاستثمارات. ومن أجل أن يصبح المغرب وجهة جذب للاستثمار العالمي، يجب أن يكون هناك تحول فكري وثقافي يواكب هذا التوجه. المغرب يمتلك كافة المقومات التي تجعله مركزًا اقتصاديًا واعدًا، من موقعه الجغرافي المتميز إلى بنيته التحتية الجيدة، ولكنه بحاجة إلى التنوير كأداة لتعزيز مكانته كمصدر جذب للاستثمارات الخارجية، ويعزز ذلك من قدرة المغرب على أن يصبح مصنعًا عالميًا، من خلال تطوير قطاعات استراتيجية مثل تكنولوجيا المعلومات، الطاقات المتجددة، والصناعات التحويلية، بالإضافة إلى مجالات صناعة السيارات، الطيران، الأسلحة، والتقنيات المتطورة، مما يسهم في تنويع الاقتصاد وتعزيز مكانته على الساحة العالمية.
إن المغرب أصبح شريكًا دوليًا موثوقًا في مجال الأمن والاستقرار. من خلال السياسات المستدامة في المجال السياسي والاقتصادي والرؤية الحكيمة لجلالة الملك، تمكن المغرب من تعزيز دوره كمصدر للأمان في المنطقة، مما جعل من السهل للمستثمرين والسياح الشعور بالثقة والطمأنينة في التعامل معه. هذا التقدير الدولي للمغرب يعكس نجاحه الباهر في تسويق الصورة الحضارية والمتميزة له بين الأمم.
وقد استطاع المغرب أن يقدم نفسه كنموذج يحتذى في المنطقة، حيث يساهم الانفتاح في تعزيز الثقة بين المغرب والدول الكبرى. فالمستثمرون والسياح يبحثون دائمًا عن بيئة مستقرة وآمنة، وهذه البيئة أصبحت سمة رئيسية تميز المغرب. إذ نجح في استضافة الفعاليات الدولية الكبرى مثل المؤتمرات العالمية والمهرجانات الفنية، وتنظيم البطولات الرياضية والفوز برهان تنظيم كأس العالم لكرة القدم، بالإضافة إلى كونه وجهة مفضلة للعديد من المشاهير العالميين.
وعلى المستوى الأمني فإن تنظيم أكبر المناورات العسكرية العالمية في المغرب، إلى جانب حصوله على أسلحة استراتيجية من دول موثوقة، يعكس بوضوح الثقة الدولية التي يحظى بها. هذه الثقة هي نتيجة مباشرة لانفتاح المجتمع المغربي وتسامحه والرؤية الحكيمة لقيادته، مما عزز من مكانة المغرب كداعم رئيسي للاستقرار في المنطقة. وهذه الثقة تحتاج إلى استمرار وتطوير مستمر من خلال تعزيز قيم التسامح والانفتاح، والتي ستدعمه في الحفاظ على استقراره الداخلي وتعزيز مكانته الدولية بشكل أكبر، مما سيؤدي إلى مواصلة انفتاحه على العالم في جميع المجالات؛ ويظل ركيزة أساسية للاستقرار، ومرجعية للتعايش السلمي والازدهار الاقتصادي في المنطقة والعالم.
مستقبل مشرق
إن مستقبل المغرب بين أيدينا، فلنجعله مستقبلًا مشرقًا يليق بتاريخنا وحضارتنا العريقة. نحتاج إلى أن نضع التنوير والحداثة في صلب استراتيجياتنا المستقبلية، وأن نعمل بكل جدية لتحقيق ذلك، لأن هذا هو الطريق الوحيد لنجاحنا وازدهارنا في عالم متغير ومعقد. مع تعزيز مكانة المغرب الدولية، وتحويله إلى دولة جاذبة للاستثمار، وصانع عالمي للفرص، نكون قد وضعنا الأسس لبناء مجتمع ديمقراطي مزدهر وآمن، يحقق العدالة الاجتماعية، ويصون كرامة الإنسان.
لكن هذا المستقبل المشرق لا يتحقق إلا بتعزيز قيم التعايش والاحترام المتبادل بين جميع مكونات المجتمع. علينا أن نكون حذرين من أي محاولة لتقويض هذه القيم، وأن نواجه أي فكر متشدد يسعى لتشويه صورتنا وإعاقة تقدمنا. يجب ألا نتساهل مع أي دعوة إلى العنف أو التطرف، بل نلتزم بالتمسك بالمبادئ التي جعلت من المغرب نموذجًا في التسامح والانفتاح. فالتحديات التي نواجهها اليوم تتطلب منا الوعي الكامل بمخاطر التراجع عن هذه القيم الإنسانية، والعمل الجاد على ترسيخها في كل جوانب حياتنا. لنواصل معًا مسيرتنا نحو بناء مغرب يستحقه أبناؤه، ويكون فخرًا للأجيال القادمة.
رشيد بوهدوز
المنسق الوطني لأكراو من أجل الأمازيغية