ما بعد كورونا.. المغرب و”مجموعة البلدان الرثة”

0 941

عبد السلام بوطيب

انتهى الصراع بين الأقطاب العالمية التي كانت تتصارع قبل الهجوم الكاسح لفيروس كورونا إلى إثبات انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من قيادة العالم، وترك هذا الأخير بدون قيادة. وما أن بدأ وباء كورونا يتمدد، حتى توجت الولايات المتحدة تركها لقيادة العالم بإغلاق حدودها أمام كبار حلفائها وغيرهم بالطريقة نفسها التي يتراجع بها الحلزون إلى غشائه عند إحساسه بخطر خارجي قائم.

وسيبقى العالم، وفق عدد من المنظرين-تائها بدون قيادة لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وستكون هذه المدة كافية-حسب جل الدراسات الرصينة-لاندثار كل المؤسسات التي ورثناها عن الحرب العالمية الثانية، وأساسا الأمم المتحدة، والمؤسسات المتفرعة عنها، ولا سيما المنظمة العالمية للصحة التي عرفت في عز أكبر جائحة يعرفها العالم المعاصر انسحابات لدول مهمة وتشكيكات في ولاءاتها.

كما أن العالم سيعرف انهيار كل التسويات والتحالفات التي أعقبت سقوط حائط برلين، والحروب التي شنت من أجل بترول الشرق الأوسط تحت يافطات متعددة من القضاء على الأنظمة التوليتارية إلى القضاء على الإرهاب الذي يتم باسم الخلفيات الدينية.

وهي كذلك فترة لبناء تحالفات دولية مؤسسة على المصالح المشتركة الراهنة في وقت وجير، دون البحث عن تحالفات استراتيجية. وهي-ثالثا-فرصة للتموقع لما بعد السنوات العشر المقبلة؛ حيث سينتهي العالم إلى بروز تحالفين قويين: تحالف الخير وتحالف الشر، ومجموعة بلدان سوف تبقى خارج التاريخ ولا دور لها، ولا نفع من وجودها حتى تعرف شعوب بعضها كيف تأخذ من جديد موقعها ضمن تحالف الخير.

إن تصنيفنا لهذه الدول سيبنى من خلال تعاملها داخليا وخارجيا مع جائحة كورونا، ومن خلال تصوراتها حول مستقبل شعوبها والعالم بعدها؛ ذلك أن التعاطي مع الجائحة ونتائجها سيؤدي إلى ظهور نوع من التحالفات الدولية، حيث ستسعى بلدان يمكن أن نسميها هنا بـ “بلدان الإنسانية الإيجابية” إلى تكتل في محور الخير، وهي بلدان وعت-منذ اندلاع الوباء-أن العلاقة الديمقراطية مع المواطنين أحسن من العلاقة القائمة على القمع والردع وإخفاء المعطيات والمعلومات.

وستنافسها مجموعة أخرى من البلدان، وهي التي يمكن أن نطلق عليها هنا “بلدان الإنسانية الزائفة”؛ لأنها بلدان ستكون بقيادات عنصرية شوفينية، كانت حكوماتها تخطط للوصول إلى الحكم عند أول أزمة مهما كانت طبيعتها، مستغلة في ذلك كل الوسائل، بما فيها الوسائل الديمقراطية، لكنها ستحاول التبني بشكل زائف لكل قيم المجموعة الأولى وخططها السياسية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وستكون أولى مهمتها عند الوصول إلى الحكم العمل على تعميق تآكل ديمقراطياتها من الداخل.

وبين المجموعتين ستظهر مجموعة من البلدان التي نسميها هنا بـ”البلدان الرثة” التي لن تقدم لشعوبها، وللإنسانية عامة، أي إضافة، ولن تصلح أن تكون الا مشجبا لـ “بلدان الإنسانية” الزائفة، تعلق عليها كل أخطائها بحثا عن نوع من التميز الزائف عن “بلدان الإنسانية الإيجابية”.

وقبل أن نبدأ في إثبات هذا النعت السياسي بناء على المنهجية الماركسية لتحديدها مفهوم “البروليتاريا الرثة”، من الضروري الإشارة هنا إلى أن كارل ماركس وصف “البروليتاريا الرثة” بأنها فئة تقع خارج علاقات الإنتاج الرئيسية في المجتمع، فلا تملك وسائل إنتاج، ولا تبيع قوة عملها؛ فهي توفر العيش لنفسها بطرق مشبوهة وثانوية مثل السرقة والدعارة والقمار والتهريب والقتل والسلب وغيرها.

كما أنه من الضروري التأكيد كذلك على أن صيرورة تكون وقيام الطبقات الاجتماعية ودورها في الصراع الطبقي، ليست هي الصيرورة نفسها لقيام البلدان وصراعاتها وتحالفاتها. وأمام غياب الوازع الأيديولوجي لتصنيف الدول وتحالفاتها اليوم، سنحاول هنا اتباع منهجية ماركس في تعاطيه مع الطبقات الاجتماعية داخل النظام الرأسمالي، فللطبقات الاجتماعية مكانة هامة في الفكر الماركسي، خاصة ما يتعلق بالصراع الطبقي والتركيب الاجتماعي للمجتمع. وقد اهتم ماركس في كتاباته السياسية المبنية على وقائع وحوادث ملموسة بكل الطبقات والفئات التي كان لها شأن في الصراع الطبقي والاجتماعي.

كان ماركس يهتم بموقف كل فئة أو شريحة اجتماعية بموقفها من الثورة البروليتارية التي كان ينظّر لها. لذا فأهم مميزات “البروليتاريا الرثة” عنده-كما أسلفت-أنها فئة تقع خارج علاقات الإنتاج الرئيسية في المجتمع، فلا تملك وسائل إنتاج ولا تبيع قوة عملها، فهي توفر العيش لنفسها بطرق مشبوهة وثانوية، وتتكون من “الذين بددوا أموالهم والمشكوك في وسائل معاشهم والمشكوك في أصلهم، ومن المغامرين المنفلتين من أوباش البرجوازية الفاجرين. هنالك أيضا متشردون وجنود مسرحون، وزبائن سجون أطلق سراحهم، وهاربون من الأشغال الشاقة، ونصابون، ومشعوذون، ومتسكعون، ونشالون، ومحتالون، ومقامرون، وقوادون، وأصحاب مواخير، وحمالون ونساخون، وضاربو ارغن، وجامعو أسمال، وسنانو سكاكين، ولحامو معادن، ومتسولون. وباختصار، كل هذا الجمهور السائب، المتنوع، غير المحدد الذي تدفعه الظروف هنا وهناك”.

ومثل هذه الفئات موجودة في كل المجتمعات كما أشار ماركس إلى ذلك في “الأيديولوجية الألمانية” 1848. لكن ما أثار ماركس منها هو موقفها من الصراع في فرنسا من حيث وقوفها كخادم مطيع للبرجوازية، ومساهمتها في قمع البروليتاريا وإبعادها عن المسرح السياسي في يونيو 1848. وهذا ما عبر عنه ماركس في “البيان الشيوعي” بـ “أما رعاع المدن، هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى جماعات المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا إلى الحركة، ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع أنفسهم إلى المكائد الرجعية”.

فإذا كان ماركس قد اهتم بموقف كل فئة أو شريحة اجتماعية من الثورة البروليتارية التي كان ينظر لها، فإننا نحن هنا سنحدد موقفنا من المجموعات الثلاث انطلاقا من:

أولا: مواجهتها الراهنة لجائحة كورونا، وما إذا كانت قد تعاملت بانتهازية مع هذه المصيبة التي أصابت البشرية على مستوى علاقتها بمواطنيها، وعلى مستوى علاقاتها الخارجية.

ثانيا: الخطط التي هيأتها للخروج من الأزمة التي تسببت فيها الجائحة.

ثالثا: من الخطط والبرامج المستقبلية التي هيأتها لعالم ما بعد الجائحة للسنتين المقبلتين، والسنوات العشر القادمة.

رابعا: نيتها لتموقع نفسها وشعوبها بعد عشر سنوات مقبلة، وهي نية يعبر عنها بشكل غير مباشر بطرق ومواقف عديدة.

في اعتقادنا أن ملامح التحالفات المقبلة قد بدت واضحة قبل الإعلان على الهجوم الكاسح لـ”كوفيد 19″، واستتبابه ببعض الدول المسماة متقدمة. وتوضحت أكثر مع خنق الفيروس لإيطاليا وإسبانيا، واستتبابه بفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، التي أغلقت حدودها دون أن تستشير مع أحد، ودون أن تخبر أحدا بالوقت الضروري لمثل هذه الخطوة الخطيرة.

ويمكن أن نتتبع هذا التموقع الجنيني من خلال إجابة كل دول العالم على الأسئلة السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية التي طرحتها “كوفيد 19”. وقبل هذا من الضروري الإشارة إلى أن هناك دراسات مهمة جدا تنبأت بتحالفات السنين المقبلة. ومنها من رأى أن تحالفات العالم المقبل بدأت مع أزمة 11 شتنبر، وأخرى رأت أن ذلك بدأ مع بروز حكام أقوياء يؤثرون سلبا على الممارسة الديمقراطية مثل بوتين، وناريندرا مودي، وشي جين بينج، وهم الحكام الذين أثاروا حسد الرئيس ترامب. وأخرى رأت أنها بدأت مع بداية تركيز القوة في أيادي “أوليغارشية سياسية واقتصادية”، وهو الاستنتاج الكبير الذي توصل إليه عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”، وهي النتائج نفسها التي كان قد توصل إليها صاحب نظرية “نهاية التاريخ”؛ حيث أكد أن النظام الديمقراطي يمر بمرحلة تدهور وأن الدولة جرى اختطافها من قبل “جماعات المصالح الخاصة” نتيجة سيطرة أصحاب الثروة على الأحزاب وعلى وسائل الإعلام، وهو ما جعل هذه الدول تكف عن أن تكون دولا ديمقراطية راعية للحريات الفردية والجماعية وممثلة للشعب. وأخرى رأت أنها بدأت حسب سوشلنا زوبوف في كتابها “عصر رأسمالية التجسس-المراقبة” مع بروز دول ديمقراطية تقنيا تعتمد في علاقتها مع مواطنيها على المراقبة والتجسس.

وبالإضافة إلى خلاصات هذه الدراسات التي استطعنا الاطلاع عليها أخيرا، فإننا سنعتمد كما قلت في التمييز بين المجموعات الثلاث من خلال التعاطي مع هذه الأسئلة التي طرحتها بلدان عديدة، وهي تحاول مواجهة “كوفيد 19”.

ولعل أول سؤال طرحته الدول هو سؤال دور الدولة خلال الجائحة، فمنها من أجاب أن دور الدولة خلال الجائحة تمليه الظروف التي نمر منها، وأن جميع تدخلاتها يجب أن تكون وفق القانون والممارسات الديمقراطية، بينما بادر آخرون إلى القول إن وجود الدولة يجب أن يتقوى، وأن عليها الأخذ بزمام الأمور حتى بعد انتهاء الأزمة بالنظر إلى أن الأسوأ قادم، وهذا الأسوأ ما هو إلا لتخويف الناس البسطاء.

وكان السؤال الثاني هو: هل ستنفعنا الديمقراطية في التصدي والقضاء على الجائحة؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال بدأت تتشكل سمات التحالفات التي نتحدث عنها هنا؛ إذ سارعت بعض البلدان مثل هنغاريا وإسرائيل إلى استغلال الفرصة والرغبة في القضاء على كل المؤسسات الاستشارية. في حين إن بلدانا أخرى عملت على إطلاق نقاش واسع بخلفية أن البلدان تكون في حاجة ماسة إلى الديمقراطية في وقت الأزمات، وإلى التعامل بيداغوجيا مع المواطنين قصد كسب ثقتهم. والثقة عملة غالية وقت الأزمات، وحث القائمين على استتباب الأمن بالابتعاد كلية عن كل الأساليب الردعية لمواجهة بعض “التمردات” لأن مثل هذه الأساليب لن تأتى بأي نتائج ملموسة. وبالنظر إلى أن وقت الأزمات هو وقت انتشار الظواهر السلبية مثل الرشوة التي تنتشر بشكل مريع في مثل هذه الظروف، ولا سيما في القطاعات المعنية مباشرة بالأزمة، فقد عملت على تشديد المراقبة، وفتحت قنوات متعددة للمراقبة الشعبية.

وما أن تم الحسم في حاجتنا إلى الديمقراطية، وانتصار الدولة الداعية إلى تعميمها بدل الانقضاض عليها، حتى طرح سؤال في جوهر الممارسة الديمقراطية أيضا، وهو سؤال كيفية جعل المواطنين يمتثلون لقرارات حكوماتهم الخاصة بمحاربة الجائحة. وهنا كذلك كانت الهوة شاسعة بين من انتهى إلى أن ضمان امتثال المواطنين إلى قرارات الحكومة يمر عبر إعطاء هؤلاء المواطنين أخبارا صحيحة، ووضعهم في حقيقة ما يحدث، وتقريبهم من مراكز اتخاذ القرار غبر خروج الحكومة بتصريحات يومية، وقبول الوزراء المثول أمام المؤسسات البرلمانية كلما تطلب الأمر ذلك، وبين من اختار الاحتفاظ بحقيقة الأمور ضمن “أسرار الدولة”، والاستثمار في الأخبار الزائفة، والتعامل مع المواطنين كقطيع لا يسمح له بإبداء الرأي أو بالمناقشة. وقد اتخذ هذا القمع أشكالا متعددة ومتنوعة وفق اختلاف طبيعة الأنظمة، وتاريخ علاقتها مع شعوبها.

وليس بعيدا عن الموضوع، قفزت قضية المراقبة الصحية الإلكترونية إلى الواجهة، فتباينت مواقف الدول وشعوبها بين من لا مشكلة له في أن تكون هذه المراقبة بيد المخابرات والشرطة، وبين من يدعو إلى ضرورة وضعها في يد جهة تسمح للمواطنين بالاطلاع على وضعيتهم الصحية، والتعامل معها وفق إراداتهم. وما زال هذا السؤال قائما ويثير كثيرا من الاحترازات؛ ففي المغرب، مثلا، لم يتعد المسجلون في “وقايتي” مليونين من البشر على الرغم من أهميته القصوى.

ولعل من أهم المواقف التي ستميز كذلك بين دول التحالفين المقبلين، هي كيفية التعاطي مع العلم والعلماء، وجعلهم في مأمن من شر تجار المآسي؛ ففي الوقت الذي دعت فيه كثير من الدول ممن ستشكل دعامة “تحالف الإنسانية الإيجابية” إلى أن مصير البشرية أصبح بين يدي العلماء، وأن القطاع يجب أن يحرز على اهتمام بالغ، قامت في بلدان أخرى دعوات شعبوية تحاول أن تبين أن العلماء “فئة” منفصلة عن الشعب، ولا تعرف أي شيء عن الواقع، بل ظهر من يشكك حتى في كروية الأرض لخلط الأوراق وسحب الثقة والمساحة التي بدأ العلماء يربحونها.

وفي خضم سؤال العلم والعلماء والبحث عن صيغ التعاطي مع عالم الغد، طرح سؤال البيئة. فمن الدول من قالت إن علينا أن نبدأ من الآن في معالجة “جرائم الإنسانية ضد محيطها الطبيعي”، وإن كل دقيقة نخسرها تعقد المأمورية أكثر. في حيم نادت دول أخرى بأن علينا الآن معالجة آثار الجائحة، أما البيئة فيمكن أن تنتظر كما انتظرت منذ آلاف السنين. والحال أن العلماء ينذروننا بأنه بعد فوات خمس وعشرين سنة من الآن، ستكون كل محاولة للمعالجة مستحيلة.

وبالنظر إلى أن القرارات الكبرى للسنين المقبلة تتخذ الآن، فإن دول المجموعتين المقبلتين مختلفتان حول طرق اتخاذ هذه القرارات؛ ففي الوقت الذي تدعو فيه الدول التي ستشكل “مجموعة الدول الإيجابية” إلى اتخاذ القرارات بطريقة ديمقراطية مبنية على التشاور مع الناس ومع العلماء، والابتعاد عن نظرية المؤامرة، والاعتماد على التضامن والمسؤولية، تعمل البلدان الأخرى على “تنمية” نظرية المؤامرة، وإشاعتها قصد تشكيك المواطنين في كل القرارات المصيرية.

اقتصاديا، الخلاف بين المجموعتين بدأ منذ الآن؛ فدول الحلف الإيجابي أطلقت النقاش السياسي الداخلي بخلفية دفع مواطنيها إلى استغلال الاختيارات الاقتصادية التي “وفرتها” لها الأزمة، وهي اختيارات لا يراها إلا الأذكياء من الاقتصاديين والسياسيين، موكدة لمواطنيها أن على الجميع العمل للتقليل من الآثار السلبية على الاقتصاد، والاستثمار فيما سماه “جاك أطالي” بـ”اقتصاد الحياة”، أي الاعتماد على الصناعات الضرورية للحياة، المرتبطة مباشرة بالحاجات الضرورية للإنسان مثل التغذية، والصحة، والتعليم، والثقافة، والإعلام، والبحث، والتجديد الطاقي، والصناعات الرقمية، تجنبا للسيناريوهات الأكثر تراجيدية بعد الجائحة؛ أي الركود الاقتصادي الطويل، وارتفاع البطالة، والتضخم، وصعود حكومات شعبوية. في حين إن الدول الأخرى تستثمر في الانغلاق على الذات والشعبوية والسوداوية بخلفية الاستحواذ من الآن على الموارد الاقتصادية، وعلى دواليب الحكم.

صحيا، فالجري نحو اكتشاف اللقاح، وإطلاق نقاش مغشوش حول أهميته في مواجهة “كوفيد 19″، سيكون كذلك ضمن المواضيع التي ستقسم المجموعتين، لأن اكتشاف اللقاح والانتصار النهائي على المرض سيكون في صالح البلدان الإيجابية، التي ستعمل بعد ذلك على الاستثمار في صناعة الأدوية، والأدوات الصحية، والمستشفيات والمنازل الصحية، والنظافة، والماء، والأكل الصحي.

إن التعاطي مع هذه الأسئلة، وما سبق ذكره من خلاصات دراسات حول مستقبل العالم، هو ما يؤهل الدول من الآن لتجد نفسها ضمن هذا التحالف أو ذاك. ويجب الانتباه إلى أن في الكثير من الدول اليوم حكومات كانت لها الشجاعة في الإجابة عن كل هذه الأسئلة بما يؤهلها لأن تكون ضمن دول الإنسانية الإيجابية، لكن دولها لن تستمر على هذا المنوال بالنظر إلى أن كثيرا منها ستخلفها حكومة انتهازيين شعبويين سيعرفون كيفية استغلال نتائج الجائحة لصالحهم، كما أن الدول المهزوزة ديمقراطيا اليوم ستجد نفسها ضمن تحالف الشر إسوة بكثير من الدول التي تشبه في تشكلها ومسارها هنغاريا مثلا. كما أن كثيرا من بلدان محور الشر ستسقط إلى حضيض البلدان الرثة دون أمل الخروج منها إلا بعد ثورة “سياسية وثقافية واجتماعية” ستتطلب زمنا ليس بالهين.

أما البلدان الرثة، فستتكون بالأساس من البلدان التي يحكمها اليوم حكام لا يهمهم إلا إثبات إيديولوجيتهم في الحكم، ولم يبق من هؤلاء إلا القائلين بصلاحية مبادئ الدين في حكم الشعوب، ومن البلدان التي لم تستطع حتى عشية قدوم الجائحة القيام بالمصالحة الداخلية، والتخلص من آثار حكومات العسكر أو الأحزاب الشوفينة، ومن البلدان التي لم تعرف رسم مسار سياسي بعد التخلص من الأيديولوجية الشيوعية، وذلك بالنظر إلى ولادة “ما يشبه المافيا السياسية” بها خلال المدة الفاصلة بين سقوط حائط برلين وقدوم الجائحة، ومن البلدان التي سوف يتخلى عنها مستعمروها القدامى بالنظر إلى أن فاتورة الارتباط ستصبح غالية لأنها لم تعد تنتج معادن نفيسة وليست صالحة لأي صناعة، ومن بلدان المعتمدة فقط على تصدير ما بجوف أراضيها، وتوزيع عائداتها بين فئة صغيرة في الغالب ما تشكل عائلة الحاكم، كما هو الأمر في عدد كبير من البلدان العربية المنتجة للبترول، ومن البلدان التي كانت إلى اليوم تعتمد في اقتصاداتها على استقطاب الأموال المسروقة والمنهوبة، وعلى عائدات تجارة المخدرات والأسلحة والبشر، ومن البلدان التي ستجد نفسها متجاوزة صناعيا وإلى الأبد بالنظر إلى الطفرة التي تعرفها اليوم الصناعات الالكترونية والبيولوجية.

فكل هذه البلدان لن يهمها الإجابة عن سؤال أهمية الديمقراطية لمعالجة الأمر راهنا ولا مستقبلا، أو سؤال الحريات، وطبيعة الأخبار التي يجب أن تصل إلى شعوبها، لأنها بلدان ستستمر في الاستثمار في الأخبار الزائفة، وستؤسس مؤسسات لترويجها، ولا تهمها طرق التعامل مع شعوبها حالا ومستقبلا، وليست مشغولة بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحها المراقبة الإلكترونية، لأنها هي بالأساس بلدان بوليسية مخابراتية، كما لا يهمها الإجابة على دور العلم والعلماء لأنها بلدان ستستمر في الاستثمار في الجهل والفكر الخرافي، وفي ترويج فكر ديني غير متنور.

وسيكون على شعوب هذه المجموعة خوض نضالات من أجل الالتحاق بمجموعة الإنسانية الإيجابية، إلا أن النضال من أجل الانعتاق في هذه البلدان سيكون نضالا عسيرا أكثر من عسر نضال العشرين سنة الماضية.

بالنسبة لبلدنا، سوف لن يكون المغرب في طليعة “بلدان الإنسانية الإيجابية” بالنظر إلى عدة عوامل، أهمها الأثر السلبي لحكم الإسلاميين للبلد لمدة ثماني سنوات، وتحالف تيار كبير من البرجوازية المغربية “الرثة” معهم، تلك البورجوازية التي راكمت خدعا لتضخيم حجم مدخرتاهم المالية، وعدم استثمارهم في تنفيذ توصيات الإنصاف والمصالحة، وتشجيعهم على الردة الحقوقية، وتشبثهم بالتفسير الحرفي للنصوص الدينية الذي لا يعطى كامل الحقوق لكل مكونات المجتمع، وغيرها من الأخطاء التي لم تعالج إلا بتدخل المؤسسة الملكية.

لكن البلد سيكون من أهم هذه البلدان بالنظر إلى أنه من البلدان القليلة التي تعاملت مع الجائحة بكثير من الصرامة وبكثير من الشفافية، وبكثير من التضامن، وبكثير من الأفعال ذات البعد الإنساني التي كانت برمتها بتوجيهات ملكية صارمة.

إلا أن المكوث برفقة هذا التحالف الإنساني لن يتأتى إلا بإحداث ثورة في تعليمنا بجميع أسلاكه، وثورة مماثلة في منظومتنا الصحية، وتعليمنا الصحي والبحث العلمي، والاستثمار كذلك في الأمن بجميع أبعاده، وبما أن هذا المستقبل سيعتمد كثيرا على الخيال العلمي فستكون الثقافة، ولا سيما الثقافة السينمائية-أساسية لتمتين موقعنا ضمن هذه الدول مادامت هذه الثقافة إطارا حاضنا للقيم الإيجابية ولإرادة الحياة.

*مركز الذاكرة المشتركة للديمقراطية والسلم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.